تطفو على سطح النقاش العام الدائر بين الفلسطينيين مصطلحات مضللة، وغير مرتبطة بمعناها الحقيقي في الواقع الفلسطيني، ومن أكثر هذه المصطلحات خطرًا هي مصطلحات (الوحدة) و(الانقسام).
هذا المقال عبارة عن مقاربة لهذين المصطلحين بعيدًا عن الظواهر والأحاديث الطافية على السطح، ومحاولة للغوص في أعماق الظاهرة فكريًّا واجتماعيًّا بالمحاور الآتية: أولًا مظاهر الوحدة والانقسام في واقع الشعب الفلسطيني، وهنا لا بد من تأكيد أن الشعب الفلسطيني موحد حول مجموعة من الرموز الثقافية والسياسية ممثلة في قداسة القدس والمسجد الأقصى والكنائس الرئيسة، وله علم واحد، وموروثات في المأكل والملبس وأنماط الفرح والحزن يستحضرها دائمًا، إضافة إلى أن أغلب القوى السياسية ما زالت عابرة لكل أماكن وجود الشعب الفلسطيني، كما أن الشعب الفلسطيني له حقوق وطنية يورثها الجيل السابق للذي يليه.
أما مظاهر الانقسام فتتمثل في الوجود في أماكن مختلفة، كل منطقة لها ظروفها، وتخضع لقوانين وأنظمة تعليم وحياة اقتصادية مختلفة، وهذا ولَّد مشكلات فرعية لكل مجموعة من أبناء الشعب الفلسطيني، جعلتهم منقسمين في اهتماماتهم اليومية والنضالية إلى حد وقوف بعضهم موقف المتفرج، الذي يعصر قلبه الألم، إزاء عذابات الآخرين ومشكلاتهم، ويكلل كل هذه الانقسامات العملية، ويطغى عليها وجود نظام سياسي عاجز غير قادر على حل المشكلات اليومية، أو حماية الحقوق الاستراتيجية، ويُخشى إن استمر على هذا الحال أن يفشل في الحفاظ على وجود الشعب الفلسطيني، وربما يتحول هذا النظام -إن استمر على هذا النمط- إلى عبء يعيق نضال الشعب الفلسطيني للحفاظ على وجوده.
ثانيًا: يركز المحور الثاني على استعراض التفسيرات الرائجة لعدم قدرة النظام على تطوير عناصر الوحدة الفلسطينية الكامنة والظاهرة، وتتمثل في تفسيرات ثلاث، التفسير الأول يعزو المسألة إلى وجود قيادة متفردة بالقرار، واستنادًا إلى هذا التشخيص تجري المطالبة بالشراكة السياسية، وتوفير الحريات الفردية والجماعية، وهذا صحيح إلى حد ما، لكنه غير كافٍ لتفسير ظاهرة عجز النظام، أما التفسير الثاني فيتمثل، من وجهة نظر البعض، في ضعف البنى الاجتماعية وتخلفها، ومن ثم يدعو إلى تحديث البنى الاجتماعية حتى تصبح أكثر قدرة على التعامل مع مستجدات العصر، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أغلب المشكلات على الصعيد الاجتماعي لا علاقة لها بالموروث الذي وُلِدَ طبيعيًّا في بيئتنا، بل هو ناتج عن المستجدات المشوهة نتيجة تطورات في السياسة والاجتماع والاقتصاد لم تكتمل، وتجري إعاقتها من قوى كثير (وقد نُفرد مقالًا مستقلًّا لهذا النوع من التطورات المشوهة)، والتفسير الثالث لهذه الظاهرة يتمثل في اعتقاد البعض أن الحزبية، التي هي عبارة عن عائلية أو قبائلية متخفية، هي السبب لأن القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتنفذة تعمل لصالحها، وليس لصالح المجتمع، وأصحاب هذا التفسير يعدون أن الانتخابات والديمقراطية هي الحل لمشكلة الانقسام الحاصلة، ومن ثم تمكين عوامل الوحدة من فرض ذاتها على أرض الواقع.
ثالثًا: يركز هذا المحور على عرض نماذج للوحدة في تجارب الشعوب الأخرى حتى تساعدنا في فهم ما هو حاصل في واقعنا الفلسطيني، وهنا نستعرض نموذجين، النموذج الأول يتناول تحقيق الوحدة بالقوة، إذ تقوم السلطة الحاكمة بالسيطرة على البلاد من خلال القوى الأمنية، وتؤسس فيها إدارات ووزارات ومدارس وبنية تحتية، إلخ، هذا النوع من التوحيد هو نموذج يعتمد على إقصاء الآخرين وتهميشهم ونبذهم، وهذا نموذج لا يناسبنا كفلسطينيين، لأننا موجودون في أكثر من مكان، ومن ثم لا يستطيع نظام أن يُكرهنا على التوحد.
أما النموذج الثاني لتحقيق الوحدة فيتمثل في نموذج يقوم على التشارك والتراضي والاتفاق بين جميع المكونات، بمقتضى عقد اجتماعي يحدد الحقوق والواجبات وقضايا الإجماع ومساحات الاختلاف وممارسة العمل السياسي، هذا النموذج هو نموذج جاذب لكل القوى والشرائح، لأنها تجد مصلحتها فيه ومعه، وهو النموذج الذي يصلح لنا كفلسطينيين.
رابعًا: يتناول هذا المحور أسباب الانقسام في واقعنا الفلسطيني من وجهة نظري، وتتمثل في أربعة أسباب: أول هذه الأسباب هو تناقض المرجعيات التي يتبناها الفلسطينيون بشأن واقع ومستقبل بلدهم، إذ يعد فريق أن فلسطين ما زالت محتلة، وأن حياتها (اقتصادًا واجتماعًا وسياسةً وإدارةً) يجب أن تنتظم في إطار حركة تحرر وطني، وفريق آخر يقول أن عصر التحرر انتهى، وأن بناء دولة فلسطينية بجوار دولة الاحتلال وبالشراكة معه هي الطريق للمستقبل، وفريق ثالث يترقب ما سيُسفر عنه هذا الخلاف في الرؤية المرجعية الحاكمة لسلوك الطرفين.
أما السبب الثاني فيتمثل في افتقار قيادة النظام القائم للمشروعية السياسية، سواء من ناحية القانون، أو تبني الثورة، أو امتلاك مشروع قابل للإنجاز، والسبب الثالث يتمثل في هشاشة بنية السلطة، وقد ظهر ذلك من خلال عدم قدرتها على فتح أبوابها لكل أطياف الشعب الفلسطيني، وكانت انتخابات 2006 نموذجًا على ذلك، إضافة إلى أن الخوف من انتخابات 2021، وتأجيلها هو دليل آخر؛ لأن شرائح واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني أدركت أن سبب التأجيل هو خوف قيادة النظام السياسي من خسارة الانتخابات.
والسبب الرابع يُعزى إلى ضعف البنية الاجتماعية، وهنا لا بد من توضيح مسألة مهمة تتمثل في أن الشعب الفلسطيني، من الناحية المعنوية، هو شعب ومجتمع مكتمل الأركان، لكنه من الناحية العملية عبارة عن جماعات تفتقر للروابط البنيوية، وهذا يُعيق عملها ونضالها المشترك ضد الاحتلال، كما يُصعِّب مواجهتها لاستبداد قيادة النظام السياسي.
وفي الختام، إن حل مشكلة الانقسام في الواقع الفلسطيني لا يتحقق من خلال مصالحة بين فتح وحماس، ولا من خلال إعادة أمر السلطة للسيد محمود عباس، إلى الوحدة الحقيقية، وإنهاء كل الانقسامات يمكن أن يتحقق بـ: التوافق على عقد اجتماع يتراضى عليه كل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، وإعادة بناء النظام السياسي على أرضية كفاحية، وتطوير البناء الاجتماعي لكي يُصبح أكثر متانة.