نحن الفلسطينيين، في نصف القرن الأخير، نستعجل الاستثمار، ونعتقد أن أي نجاح نُحققه في أي مجال من المجالات يجب أن ينقلنا خطوات كبيرة إلى الأمام، وأن أي تضحيات نقدمها يجب أن تُترجم فوراً إلى مكاسب مادية ملموسة على الأرض، ولم ننتبه إلى أن سعينا للاستثمار السريع قد أوقعنا في أخطاء وخطايا نحتاج إلى وقت حتى نتعافى من آثارها السلبية والضارة.
حدث هذا في أوج عمل منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية المقاتلة، حيث اعتقدت القيادة في ذلك الوقت أن الإنجاز يجب أن يتحقق سريعاً، فبدأت تُقدم الأفكار والمقترحات والحلول لتحقيق إنجازات سياسية، ورفعت شعار أن (العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد)، ووصفوا البندقية غير المُسيّسة بأنها قاطعة طريق.
وعندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الكبرة عام 1987م، سارعت القيادة للاستثمار، وأتت باتفاقية أوسلو سيئة الذكر، حدث الأمر نفسه مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وكذلك عندما اندلعت مسيرات العودة عام 2018، بدأ النقاش سريعاً حول إمكانية الاستثمار بعد الجمعة الأولى والثانية، والتي كان الحشد فيها مُبهراً، والأداء فيها راقياً، ودخل الحوار على تفاهمات وترتيبات لتحسين أوضاع الفلسطينيين في قطاع غزة، وكانت إسرائيل تتراجع عنها، فتضطر المقاومة للضغط بأدوات الكفاح السلمي الخشنة، وأمام الأداء المُبهر للشعب الفلسطيني، ومقاومته الباسلة في غزةـ يتحدث البعض عن الاستثمار السياسي لهذا الفعل العظيم.
إن خطورة الحديث عن الاستثمار السريع للبطولات والتضحيات تتمثل في أنها تُدخل الناس في حالة من الإحباط، خاصة عندما لا تتحقق الإنجازات، وتجعلهم يعتقدون أن التضحيات ضاعت هباءً، وأنه لا داعي لخوض جولة جديدة من المقاومة؛ لأنها ستنتهي بنفس الطريقة، وتبدأ تتردد مقولات مثل: نحن نجيد البدايات، لكننا نفشل في تحديد النهايات، ونحن نٌبدع في المقاومة والتضحية، لكننا نفشل في السياسة .... إلخ من المقولات التي تُضاعف حالة الإحباط.
حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق إنجازات لا بد أن يُجيد تشخيص اللحظة التي تولّدت، وبالتالي سيعرف كيف يبني عليها. والأسئلة التي يجب أن نتجند في بحث إجابتها الآن هي: ما الذي حدث في مايو 2021؟ ما الذي تسبب في حدوثه؟ ما المعنى الكامن فيه؟ هل بلغ نهايته؟ هل يمكن البناء عليه؟ وما هو الإنجاز الذي تحقق؟ ولماذا نُسميه إنجازاً أو انتصاراً؟
إن الذي حدث في مايو 2021 هو وحدة حال لكل الشعب الفلسطيني فوق أرضه الكاملة، وحيثما تواجد في الشتات، تجسدت في الميادين والساحات، من خلال الهتافات والاعتصامات والمسيرات والبنادق والصواريخ والطائرات والغواصات، أعلن الشعب خلالها أنه شعب واحد، ويخوض نضالاً مشتركاً، وكانت القدس هي عنوان كفاحه هذه المرة.
وبهذا التوحد الميداني فقد وجّه الشعب الفلسطيني ضربة قوية لثلاثة مخططات رئيسة للاحتلال هي: محاولة الاحتلال تجزئة الشعب الفلسطيني إلى مناطق منفصلة في قضاياها وهمومها عن بعضها البعض، والاستفراد بكل منطقة على حدة، بحيث يُحظر على المناطق الأخرى نجدتها والوقوف إلى جانبها في التصدي لعدوان الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يتوقف. إضافة إلى تشكيك الاحتلال في إمكانية استكمال المشروع الاستيطاني والتهويدي في الضفة والقدس تحت ظلال التنسيق الأمني الذي يوفر بيئة جاذبة للاستيطان في هذه المناطق، كما أسقط شهر مايو محاولة الاحتلال شيطنة مقاومة الشعب الفلسطيني واعتبارها عمل خاص بفصيل سياسي يبتغي من ورائه تحقيق مكاسب سياسية غير وطنية.
وفي المقابل أظهر شهر مايو، ومعركة (سيف القدس) أن مقاومة الشعب الفلسطيني انتقلت من مرحلة الفعل العاطفي الانفعال إلى مرحلة العمل الاستراتيجي المبني على العلم والمعرفة، هذا العمل الذي لا يقتصر على أداء الواجب، وإنما يسعى إلى ضرب فاعلية المؤسسة الاحتلالية في شقها الأمني والاستراتيجي كذلك. والمقصود بالتأثير على الفعالية الأمنية يتمثل في تقليل فاعلية القبة الحديدية، وإحداث اختراق لمنظومتها مكّن الصواريخ من الوصول إلى أهدافها.
أما الجوانب الإستراتيجية فإن أهمها يتمثل في نقطتين هما: أن المقاومة لم تعُد تقتصر على الدفاع عن غزة وما يجري من عدوان بحقها، وانتقلت خطوة ذات مغزى على صعيد الانتقال إلى المقاومة الهجومية التصاعدية المبادِرَة من أجل حماية مناطق ومصالح أخرى للشعب الفلسطيني، إضافة إلى قدرة هذه المقاومة على تعطيل المرافق الاستراتيجية الحيوية للاحتلال مثل الموانئ والمطارات.
لا يتسع المقال للحديث عن مزيد من النقاط، لكن ما تقدم أعلاه يكفي للاستدلال على أن وحدة الحال في فلسطين من البحر إلى النهر، والطريقة المُبهِرة في الأداء هي التي جلبت اهتمام العالم بالقضية الفلسطينية من جديد، وتجدر الإشارة إلى أن الاهتمام له شقين: الأول سلبي يمثله الاهتمام الأمريكي وذيوله، والذي يهدف إلى ترميم مسيرة التسوية السياسية التي تسببت في حدوث كل العطب الذي لحق بالقضية الفلسطينية وشعبها، والشق الثاني إيجابي يتمثل في نهضة أنصار فلسطين، وتحركهم من أجل دعم الشعب الفلسطيني ونصرته.
أؤكد مرة أخرى أن وحدة الحال الشعبية على أرضية المقاومة والكفاح هي التي جلبت الاهتمام للقضية، والمطلوب الآن هو ليس البحث عن استثمار سياسي، لن يمنحه أحد للفلسطينيين، وإنما المطلوب هو تعزيز وحدة الحالة الكفاحية في فلسطين الكاملة، وفي كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب:
أولاً: استدامة حالة الاشتباك مع الاحتلال، واختيار أساليب وأدوات وأفكار وساحات ومواقع متجددة، بحيث يتم خوض هذا الكفاح بشكل مشترك، ولتكن عناوين هذا الاشتباك القدس، والاستيطان، والأسرى، وكسر الحصار عن غزة، وممارسة حق العودة في الميدان.
ثانياً: إسقاط كل المقولات التي أسرت شعبنا على مدار ثلاثة عقود، والتأكيد أن السلام غير ممكن مع هذا الاحتلال لأن طبيعته ترفض التعايش والتجاور، إضافة إلى تعزيز خطاب وممارسة أن هزيمة هذا الاحتلال ممكنة وعملية، وأن حقوق الشعب الفلسطيني بتحرير الأرض والعودة إليها مقدسة وممكنة وقانونية.
ثالثاً: حرص غزة على أن تكون نموذجاً للحريات، والحكم الصالح، والحرص على توفير العيش الكريم والمحترم بدرجة عالية من العدالة لكل أبناء قطاع غزة، خاصة قطاعات الشباب المحرومة من العمل، لأن هذه البقعة الصغيرة التي تُشكل 1% تقريباً من أرض فلسطين، يعيش عليها حوالي 30% من الشعب الفلسطيني، ويقومون بواجب أكبر من حجم الأرض والسكان بكثير، ولهذا يستحقون من حكامهم، ومن بقية شعبهم اهتماماً أكبر، واحتراماً أكثر.