في المعارك بين الشعوب الواقعة تحت الاحتلال ودولة الاحتلال، لا تتحقق الهزائم والانتصارات بالضربة القاضية، بل بتسجيل النقاط التي تُشكل بمجموعها إما سيراً على طريق الانتصار، وإما الهزيمة. وللتوضيح فإن هذه النقاط يجب أن تُترجم على شكل تغيير إما في الخرائط الجغرافية أو السياسية، أو في المعادلات الحاكمة للعلاقة بين الأطراف المتصارعة.
فيما يتعلق بالتغيير في الخرائط الجغرافية، فإن الصراع بين دولة الاحتلال وبين الشعب الفلسطيني، منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى الآن، قد شهد خروجاً لقوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، وزحفاً متزايداً على أراضي الضفة بما فيها القدس، ويحاول الاحتلال في هذه الأوقات إكمال هذا الزحف، وعزل القدس بالكلية عن محيطها الفلسطيني، وفصل مناطق الضفة الغربية عن بعضها البعض من خلال السيطرة على 60% من مساحة الضفة الغربية لصالح الاستيطان، وقد تمكن الاحتلال من تحقيق هذا التغيير في جغرافية الضفة الغربية من خلال التنسيق الأمني الذي وجّه ضربات قاتلة للمقاومة الفلسطينية في الضفة.
أما فيما يتعلق بالخريطة السياسية في الساحة الفلسطينية فقد شهدت محاولات تغيير واضح منذ انتفاضة الأقصى وحتى الآن، حيث شهدت الساحة الفلسطينية حالة من وحدة الموقف تم التعبير عنه من خلال لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية، وعمليات عسكرية مشتركة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، إلا أنه تم الانقلاب على ذلك التغيير باغتيال أبو عمار عام 2004، وتنصيب محمود عباس رئيساً للسلطة.
وحدث التغيير في الخريطة السياسية الداخلية الفلسطينية مرة أخرى من خلال نتائج الانتخابات التشريعية 2006، إلا أنه تم الانقلاب عليها مباشرة من خلال تحالف شمل محمود عباس و(إسرائيل) والدول الغربية إضافة إلى العديد من الدول العربية، لكن حركة حماس تمكنت من منع الانقلاب في غزة، بينما نجحت فتح من تنفيذ الانقلاب في الضفة الغربية، وبالتالي أصبحت الخريطة تتشكل من حكومة في الضفة وأخرى في غزة، وفشلت كل الحوارات والوساطات في إعادة تشكيل حكومة واحدة حتى عام 2014، وعندما تشكلت حكومة واحدة في تلك السنة، فإن هذه الحكومة رفضت القيام بواجبها تجاه غزة، وهكذا بقي الأمر على حاله، حكومة في الضفة تدّعي واحدية الشرعية، وتفرض عقوبات على غزة، إضافة إلى إدارة في غزة تحمل عبء المسئولية عن الأوضاع الداخلية.
وبقيت قيادة فتح التي تسيطر على أجهزة السلطة في الضفة، ومؤسسات م ت ف تحتكر التمثيل الرسمي للشعب الفلسطيني، لكن شعبيتها تراجعت داخلياً، ولم يقتصر فشل قيادة فتح الرسمية على عجزها عن مواجهة الاحتلال، أو فشلها في التصالح مع حماس، بل إنها وجدت نفسها أمام مأزق فتحاوي تمثل في انقسام داخلي يستعصي على الحل.
وبخصوص المعادلات الحاكمة للعلاقة بين الأطراف المتصارعة شهدت العلاقة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية تغيُّرات بعضها لصالح الاحتلال، والبعض الآخر لصالح الشعب الفلسطيني، حيث تمكن الاحتلال من فصل العلاقة بين غزة والضفة فيما يتعلق بالمقاومة، وبقيت يد الاحتلال مُطلقة في الضفة، وأصبح بإمكان الاحتلال بحكم التنسيق الأمني الوصول إلى كل قطعة سلاح أو حفنة شواكل يمكن أن تصل للمقاومة في الضفة الغربية، إضافة إلى تفكيك أي خلية تُشكلها المقاومة.
أما في غزة فقد تمكنت المقاومة من فرض معادلة أخرى، صحيح أن الأمر مقتصر على غزة وحدها، لكنه شكل معضلة للاحتلال، وترتكز المعادلة على استمرار غزة في تطوير وبناء قوة عسكرية، وبلورة قواعد اشتباك تضع حداً لتغول الاحتلال، وكان التصعيد الإسرائيلي ضد غزة يُجابه برد فلسطيني، ووصلت الأمور إلى خوض أربع حروب، بما فيها الحرب الأخيرة في مايو 2021.
حاولت المقاومة تعديل قواعد الاشتباك، خاصة بعد النداءات التي خرجت من الأقصى والضفة الغربية التي طالبت مقاومة غزة بالتدخل، وبالفعل فقد اندلعت الحرب الأخيرة في محاولة تأكيد من المقاومة في غزة أنه ليس مسموحاً للاحتلال أن يستفرد بأبناء الشعب الفلسطيني في القدس، وأن هذه المقاومة هي في خدمة كل الشعب الفلسطيني، وليس من أجل غزة فقط.
الاحتلال قام بجرائم تفوق الخيال لكي يكسر هذه المحاولة، لكن المقاومة بقيت متمسكة بها، وربما يحتاج تثبيتها إلى شيء من الوقت والجهد على صعيد مواجهة الاحتلال ميدانياً داخل القدس، وعلى الحواجز المحيطة بها، وعند كل نقاط التماس بين أهلنا وبين الاحتلال في الضفة الغربية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحروب الأربع التي شنها الاحتلال على غزة انتهت بإنجاز معنوي كبير، وكان من الطبيعي أن تساهم هذه الإنجازات المعنوية إلى تغييرات في الخريطة السياسية، إلا أن محمود عباس وفريقه، إضافة إلى القوى الرئيسية في الإقليم كانت تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وتمنع أي تغيير، وقوى المقاومة كانت تفشل في استثمار انتصاراتها، وذلك من خلال محاولة البحث عن مصالحة مع فريق يجاهر بالعداء للمقاومة، ورغم كل التنازلات التي قدمته له المقاومة إلا أنه بقي يُصر على دعم حصار غزة، وفرض العقوبات عليها، وتوجيه اللوم لكل من يحاول مساعدتها.
يمكن القول، بعد ما تقدم، أن الساحة السياسية الفلسطينية شهدت محاولات للتغيير على صعيد الخريطة السياسية الفلسطينية الداخلية، لكنها أُحبِطت من قبل الطرف المهيمن على المؤسسة الرسمية الفلسطينية، ويبدو أن محاولات إحباط أي تغيير ستبقى قائمة، بل إن العمل في هذا المجال بدأ قبل أن تضع الحرب الأخيرة أوزارها، واتضح أنه لا يمكن تحويل المكاسب المعنوية التي أنجزتها المقاومة إلى واقع فعلي إلا من خلال فرض الحقائق على الأرض، تماماً كما تتم فرض الحقائق في مجال المقاومة، يجب فرض الوقائع في مجال السياسة، ويبدو أن جولة النضال المشترك التي شهدها شهر مايو 2021 هي (بروفة)، وستشهد الفترة التالية ترجمة لإنجازاتها في الواقع السياسي بمنطق فرض الحقائق على الأرض.