فلسطين أون لاين

​جولة دونالد ترامب في المنطقة العربية وانعكاساتها المستقبلية (3-3)

ه. ماذا يعني كل ذلك للمفاوض العربي:

1. على المفاوض العربي أن يضع في اعتباره أن ترامب لن يتورع عن الكذب عليه، وهذا يعني أن على المفاوض العربي ألا يأخذ ما يقوله ترامب على محمل الجد، إلا في حدود لا تزيد على 30%.

2. إذا ما اضطر المفاوض العربي للثناء على ترامب، فيجب ألا يتضمن ذلك الثناء مواقف سياسية، لأنه ينتظر دائماً ممن يتعامل معه أن يثني عليه مهما فعل.

3. لن يتوانى ترامب عن ابتزاز المفاوض العربي سواء أكان الموضوع سياسياً أم مالياً وبمستوى من الابتزاز غير الأخلاقي.

4. كل من يخالفه الرأي من العرب سيعمل على تشويهه تماماً في كل تصريحاته ومواقفه.

5. إذا شعر ترامب بأنه خاسر تماماً فإنه يتراجع ولا يرى في ذلك أيّ حرج (مواقفه مع الصين، ومع كوريا الشمالية، ومع الداخل الأمريكي، ومع موضوع الناتو، بل ومع السعودية...إلخ).

2. توجهات ترامب الكبرى وانعكاساتها على المنطقة العربية:

إن الإنفاق العسكري الأمريكي الذي أعلن عنه ترامب بزيادة 54 مليار دولار لتصل إلى 639 مليارا (مجموع إنفاق الدول السبع التالية لها في الترتيب)، يستدعي التساؤل عن كيفية التوفيق بين هذه الزيادة وبين وعود ترامب بإنعاش الاقتصاد الأمريكي. فالولايات المتحدة التي تمثل 4.3% من سكان العالم تنفق 37% من الإنفاق العسكري والدفاعي العالمي.

إن أهم رافعة لتحريك النمو الاقتصادي الأمريكي هو الصناعة العسكرية، ويكفي أن نتنبه إلى بعض المؤشرات:

أ‌. 68% من نفقات البحث العلمي في الولايات المتحدة تذهب للأغراض العسكرية.

ب‌. 46% من الحروب (الدولية والداخلية) في العالم تتم بأسلحة أمريكية يحملها طرفا الصراع، و43% من الحروب يستخدم فيها أحد أطراف الحرب سلاحاً أمريكياً.

ج. كان نصيب الولايات المتحدة من مبيعات السلاح 33% من مبيعات العالم خلال الفترة 2011–2015.

د. من الواضح أن المعاناة من فترات الركود الاقتصادي أو تعثّر النمو (1929، و1970، و1987، و2008) تبعتها زيادة في الإنفاق العسكري، لأن ذلك يسهم في امتصاص البطالة وتطوير التكنولوجيا وتعزيز التجارة العسكرية...إلخ.

الملاحظ أن مشروع ترامب تضمن تخفيضاً في النفقات الخارجية، والإسكان، والبيئة، والكثير من المشروعات الفيدرالية لتعويض بعض الإنفاق العسكري، وكل ذلك يخدم المجمع العسكري الصناعي. ويكفي النظر في خلفيات الشخصيات المهمة في إدارة ترامب لفهم ذلك. وإذا كانت الدول التي صنفها ترامب خلال حملته بأنها الأكثر عدوانية، وهي الإرهاب، والصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران تجعله يبرر زيادة الإنفاق، فإن المجمع العسكري الصناعي هو الذي يُحرّكه، ويكفي أن أحد ممثّلي المجمع قال: "جئنا به لخدمتنا".

الاتجاه الأعظم Mega-trend للسياسة الأمريكية (المستقبل البعيد):

من غير الممكن دراسة سياسة الولايات المتحدة في عهد ترامب بمعزل عن اتجاه أعظم للوضع الأمريكي الذي يميل تدريجياً للتراجع على المستوى العالمي، طبقاً لتقديرات عدد كبير من الخبراء في الدراسات المستقبلية أو غيرها (مثل بول كيندي، أو جون غالتنغ أو غيرهما).

بناء على ذلك فإن تحليل السياسة الأمريكية يجب أن يتم بناء على مديين، هما: المدى المباشر (فترة ترامب) والمدى البعيد (عشر سنوات أو أكثر). ولما كان المقام لا يسمح بتناول مؤشرات المدى البعيد، فإننا سنشير لبعضها على عَجَل، لرصد احتمالات السياسة الأمريكية على المدى القصير أو المباشر في المنطقة العربية لا سيّما في الموضوع الفلسطيني:

إن عالم الدراسات المستقبلية جون غالتنغ من أوائل من تتبعنا دراساتهم ونماذجهم خصوصاً أنه يجمع التخصص في علم الاجتماع وفي الرياضيات (يحمل درجة الدكتوراة في كل منهما)، وما يلفت انتباهنا هو سجله الحافل في مجال التنبؤ في الدراسات المستقبلية، ولعل نموذجه الأكثر مدعاة للانتباه هو نموذج رياضي صاغه في نظريته "تزامن وتعاضد التناقضات" synchronizing and mutually reinforcing contradictions سنة 1980، ودرس فيها صعود وهبوط عشر إمبراطوريات، وتوقع استناداً لنظريته أن ينهار الاتحاد السوفييتي في سنة 1990 (أي بعد عشر سنوات من نظريته، وهو ما وقع بالفعل).

وتتضح قدرة غالتنغ من خلال تنبؤاته الأخرى مثل تنبئه بوقوع الثورة الإيرانية، ووقوع اضطرابات ميدان تيانانمين الصيني 1989، ووقوع الأزمات الاقتصادية 1987 و2008 في الاقتصاد العالمي، ووقوع هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. لكن دراسته الأكثر صلة بالولايات المتحدة هي الدراسة التي نشرها سنة 2009، والتي تنبأ فيها بمسألتين مهمتين هما:

1. أن الولايات المتحدة ستتراجع خلال 25 سنة، وبنى رؤيته استناداً لرصد 15 مؤشراً على التناقض في الجسد الأمريكي، من أهمها:

أ. التناقض الاقتصادي: فائض في الإنتاج، مع بطالة، ونفقات تلوث متزايدة.

ب. تناقض عسكري: خلافات مع الحلفاء في الناتو وخارجه حول من يتحمل نفقات الحروب (وهو ما يثيره ترامب حالياً).

ج. تناقض سياسي: التناقض بين أدوار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الدور الأمريكي.

د. تناقض ثقافي: التناقض بين المكون المسيحي اليهودي والمكون الإسلامي والأقليات الأخرى (موضوع ملتهب الآن).

هـ. تناقض اجتماعي: تزايد الهوة بين الحلم الأمريكي لكل مواطن وبين تآكل الطبقة الوسطى (سيتعزز مع ترامب).

و. تناقضات دولية تظهر في التنافس الأمريكي مع الصين وروسيا (وهي واضحة الآن في مجالات عديدة).

2. العلامة الفارقة في هذا المسار يحددها غالتنغ في الحالة التي تبدأ فيها "نخب الأطراف تتذمر من القيام بمهمات الحروب نيابة عن المركز. وهو ما يشير لبدء انهيار الإمبراطورية وهو ما يتضح في موقف دول الناتو حالياً من الدور الأمريكي (تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً منذ 1945 في 37 دولة وقتلت 20 مليون فرد). ويرى غالتنغ أن تراجع الولايات المتحدة في المسرح الدولي سيقود لتداعيات داخلية قد تصل لحد تفكك الولايات المتحدة ذاتها أو تتحول لدولة كونفيدرالية.

وبعد انتخاب ترامب رأى غالتنغ ان التراجع سيبدأ قبل ذلك بخمس سنوات (2020) وأن الفاشية ستكون المظهر المركزي للانهيار، ويرى أن مواقف ترامب من المهاجرين تكيد لرؤيته.

3. المستقبل القريب:

بناء على ذلك، نرى أن المستقبل القريب يحمل القسمات التالية:

إن تغليب التطبيع العربي مع (إسرائيل) على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، سيكون أوفر حظاً من الاتجاه المعاكس.

إن محاولة فكّ تحالفات بعض القوى الفلسطينية المسلحة أو اقتراب بعضها الآخر من محور المقاومة سيتعرض لمزيد من الضغوط.

إن أنصار التسوية السلمية سيواجهون هم الآخرون قدراً كبيراً من الإحباط، مما يجعلهم في موقف أكثر ضعفاً.

وبناء على ما سبق، فإن على المقاومة الفلسطينية أن تتوخى أقصى درجات الحذر، وأن تحاول استثمار القوى الحزبية والشعبية العربية (بغض النظر عن كل ما يشوبها) لأنها ستكون الجدار الواقي لها. كما أن عليها ألا تنخرط بأي شكل في النزاعات العربية الداخلية، وأن تحاول ترميم علاقاتها مع "كل" من يقدم لها يد العون.

أخيراً:

من الضروري عدم استبعاد أن شبح الاتهامات ولجان التحقيق الداخلية التي تلاحق ترامب في أكثر من جانب "ربما" تلقي بظلالها على وهج الصورة السابقة فيرتبك المشهد بكامله. إن إقالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئيس الأف.بي.آي (جيمس كومي) ومطالبة زعيم الديمقراطيين في الكونجرس بلجنة تحقيق مستقلة، حول علاقات ترامب بروسيا، توحي بأن الإضطراب ما زال يضرب الإدارة الأمريكية. ولا بدّ من التذكير بأن فضيحة ووترغيت بدأت في منتصف 1972 وانتهت بعد 26 شهراً عندما استقال نيكسون بعد شعوره بأن إدانته صارت مؤكدة... فهل سيتكرر المشهد؟ وهو ما قد يدفع ترامب لتأجيج أزمات خارجية لامتصاص آثار أزماته الداخلية وصورته المهزوزة، وقد يكون الشرق الأوسط هو الأكثر جذباً له لممارسة ذلك.