تترك متابعة الدراسات والتصريحات والمناقشات الإعلامية الإسرائيلية انطباعين هما المرونة في تقبل طرح كل الأفكار المتباينة والاستماع لها من جانب هيئات صنع القرار من ناحية وإرباك هذا الصانع للقرار بين تناقضات الأفكار والحلول المتباينة من ناحية ثانية، ونظرا لتعقيدات هذه الموضوعات سأقدم سلسلة من الأفكار التي يتناقش فيها الإسرائيليون لتاكيد أن إسرائيل دولة "دخلت مرحلة التيه السياسي " بعد التيه الجغرافي الأول زمن الفراعنة ، مع ملاحظة أن الحيز الجغرافي للتيه الاول والتيه الثاني هو ذاته تقريبًا.
أولا: أهداف الحرب على غزة: أجزم أن اكثر من 80% من الخبراء الذين اتابع دراساتهم غربًا وشرقًا يقولون ان هدفيّ
الحرب التي يشنها نيتنياهو هي اهداف ينفي احدهما الآخر، فالقضاء على حماس سيؤدي إلى مقتل أغلب الاسرى الاسرائيليين أو النسبة العظمى منهم، ومن هنا فان احد الاهداف يحمل بذور فناء الهدف الثاني، ولعل دلالات دقة هذه المعضلة ان اغلب حالات محاولات الانقاذ انتهت الى مقتل الرهائن الذين جرت محاولات انقاذهم.
معضلة الرهائن هي المؤشر الأول على التيه وصعوبة ايجاد حل وسط بين الهدف الاول(القضاء على حماس ) والهدف الثاني(انقاذ الرهائن)، فالهدفان لا يجتمعان.
ثانيا: تقدر الدراسات المختلفة ان انسحاب الجيش الاسرائيلي من غزة (الآن او لاحقا) سيفتح المجال امام عودة المقاومة للقطاع، فإذا انسحب الان او في فترة قريبة، فان كل المؤشرات تكشف ان المقاومة ما تزال بقدر من العافية التي تؤهلها لاعادة تنظيم نفسها وتنظيم مجتمع القطاع ككل، اما إذا بقيت اسرائيل في القطاع لفترة طويلة ، فان المخاطر من ذلك متعددة ومنها:
أ- احتمال تصاعد الصراع لمستواه الإقليمي رغم أنه الآن في مرحلة "شبه اقليمي"، فمحور العراق يمتد من لبنان إلى اليمن والعراق وغزة، فمن المؤكد أن نتنياهو لم يخطر في ذهنه أن اليمن والعراق سيكونان طرفا رئيسيا في المعركة، وتوهم أن حزب الله سيبقى في نطاق التهديد المعتاد عربيًا أو سيشارك بعمليات رمزية، وفشل في كل تكهناته.
ب- إن استمرار الجيش الاسرائيلي في غزة سيترتب عليه أعباء اقتصادية وسياسية وعسكرية، ويكفي أن نشير أن اسرائيل تحملت خسائر اقتصادية تصل حتى الآن الى حوالي 60 مليار دولار، ناهيك عن النمو الاقتصادي تراجع من +19.4 % مع بداية 2022 إلى سالب 19.4% مع مطلع 2024، وتراجعت الصادرات بنسبة 18.2% والواردات بنسبة 42% ،وزادت نفقات الحكومة بسبب المجهود الحربي بمعدل 88.1% بينما تراجع تدفق الاستثمار بنسبة 67%، فإذا اضفنا لذلك ان قرابة 200 الف مهجر من المستوطنات تتحمل الدولة إعاشتهم، وهناك 300 ألف من موظفي القطاعين العام والخاص تم إلحاقهم بالقطاعات العسكرية على حساب قطاع التشغيل ..وكلما طال أمد الحرب كلما تعمقت الأازمة، ويكفي أن نشير أن قطاع التكنولوجيا الذي تتباهي به إسرائيل فقد حتى الآن قرابة 60% من الجذب الاستثماري فيه.
ت- إن استمرار الحرب بشكلها الدموي الحالي ، سيزيد من العزلة السياسية لاسرائيل ، فصورة اسرائيل ترسمها الآن المظاهرات في كل دول العالم وفي الجامعات تحديدا ،والوقوف الاسرائيلي أمام المحاكم الدولية، وتزايد قطع العلاقات الدبلوماسية أو سحب السفراء والتصويت المتزايد لصالح الاعتراف بفلسطين ..
ث- إن استمرار الصراع يزيد التشقق الداخلي في المجتمع الاسرائيلي (بين الحريديم والعلمانيين، وبين العسكريين، وبين السياسيين، وبين العسكريين والسياسيين، ) ناهيك عن تنامي عدم الاستقرار في اسرائيل وفي الضفة الغربية، ويكفي أن نشير إلى إن معدل عدم الاستقرار في اسرائيل تزايد بنسبة تصل إلى 160% وهو ما يجعلها تحتل المرتبة 171 بين 193 دولة، وهي في نفس مرتبة موزمبيق.
ج- انحدار لغة الحوار بين القادة السياسيين والعسكرية بشكل لم تألفه أدبيات الحوار السياسي الاسرائيلي، ويكفي مراجعة أوصاف يهودا أولمرت أو يهودا باراك لنيتنياهو أو أوصاف مدير مكتب نيتنياهو لوزير دفاعه او أوصاف بن غافير لبني غانتس....الخ ، مما يشير لتوتر غير مألوف بين عناصر النخبة الحاكمة.
ذلك يعني أن اسرائيل تائهة بين القدرة على تحمل أعباء استمرار القتال وبين الخروج من الحرب بكل ما يعنيه ذلك من إحباط مجتمعي اسرائيلي وتعزيز مكانة المقاومة واهتزاز صورة الجيش الاسرائيلي ...إلخ من تداعيات قد يكون لها آثار استراتيجية بعيدة المدى.
ثالثا: سلطة بدلًا من المقاومة: بعد أن روجت اسرائيل لمد سلطة التنسيق الأمني إلى غزة وفشلت ،حاولت اختراع سلطة قبلية عشائرية في غزة وهو ما لم يرَ النور، وتحاول البحث عن بديل للمقاومة يحظى عربيا ودوليا وفلسطينيا بالقبول، لكن الامر يشير الى عدم القدرة على التوافق على طبيعة هذه السلطة، فاجراء انتخابات سيعيد المقاومة للسلطة باجماع كل الخبراء واستطلاعات الراي العام الفلسطيني ، ومحاولات زرع الفتنة – على يد خلايا حراس أوسلو- لم تفض إلا لاعتقالهم من قبل المقاومة، وهو ما يعني تيها
آخر لاسرائيل، فهي عاجزة عن ايجاد بديل للمقاومة، وعاجزة عن اجتثاث المقاومة .
رابعا: الحل الاستراتيجي: أزعم وبقدر كبير من الثقة بأن المشكلة الأكبر لاسرائيل هي أنها ليس لديها حل للموضوع الفلسطيني، فالتهجير فشل فشلا ذريعا، وحل الدولة الواحدة يعني أن الأغلبية في برلمان الدولة الواحدة سيكون للفلسطينيين بحكم العدد السكاني وبحكم نسبة الزيادة السكانية، وحل النموذج الجنوب افريقي زمن التمييز العنصري سيعني استمرار موجات عدم الاستقرار بل وتزايده ، وحل الدولتين يقاومه كل اليمين الاسرائيلي المستولي على السلطة، وهو ما يعني أن اسرائيل تائهة بين مشكلتها الديموغرافية وبين عدم وجود حل لهذه المشكلة...وهي قلقة للغاية من تزايد التأييد الدولي لحل الدولتين، فإن قبلته فقد ينفجر اضطراب واسع بين وحدات المجتمع الاسرائيلي ،وإن لم تقبله واجهت بيئة دولية ضاغطة.
ماذا يعني ذلك:
يبدو أن نيتنياهو أخذ قراره بأن يضحي بالرهائن او معظمهم ويستمر في المعركة لأن ذلك هو أهون الشرور من وجهة نظره، لكنه يخشى –ومعه الامريكيون- من ان تتسع المواجهة ويضطرب الوضع الاقليمي الى حد يصبح معه الوصول لصورة واضحة للمستقبل امر شبه مستحيل..ويستمر التيه من جديد..ربما.