استأنف الشعب الفلسطيني كفاحه المُسلح بعد النكبة لاستعادة الأرض المحتلة عام 1948، وبعد نقاشات وضغوطات وإنجازات وأزمات، أبدت قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير اعتبار أن الأرض المحتلة عام 1967 وحدة سياسية واحدة، وأعلنت استعدادها عام 1974 لإقامة الدولة عليها كحل مرحلي، يسمح للشعب الفلسطيني باستئناف كفاحه من أجل تحرير ما تبقى من أرض فلسطين الكاملة.
لكن هذه القيادة قدمت إعلاناً جديداً عام 1993 يقضي بالاعتراف بحق دولة الاحتلال في الوجود على الـ 78% من أرض فلسطين، ودخلت مسيرة سياسية، وروجت أن تلك المسيرة ستنتهي -دون ضمانات من أحد- بإقامة دولة مستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.
قُبيل ذلك التاريخ، وتحديداً منذ عام 1990، أي لحظة تحشيد أمريكا حلفها لمهاجمة العراق وإجباره على الانسحاب من الكويت، ثم خلال الاستعدادات الغربية لعقد مؤتمر مدريد بدأت دولة الاحتلال تضع على الأرض أسس سياسة واضحة المعالم لفصل القدس عن محيطها الفلسطيني في الضفة، وتشديد إغلاق غزة، وجعل كل خروج منها أو دخول إليها يتطلب تصريحاً من سلطات الاحتلال.
وجاءت اتفاقية أوسلو عام 1993، وبعدها تأسست السلطة على هذه الأرضية، وتسارعت عملية فصل وعزل مكونات الأرض المحتلة عام 1967 في حضور السلطة الفلسطينية، وتضاعف الاستيطان، وأخذت معالم المعازل الفلسطينية تتعزز في الضفة الغربية، وبلغت ذروتها تحت رئاسة السيد محمود عباس للسلطة منذ عام 2005 وحتى الآن، حيث تزايد الاستيطان في الضفة ثلاثة أضعاف.
ولم يقتصر انفصال الفلسطينيين، داخل فلسطين من البحر إلى النهر، عن بعضهم على الجانب الجغرافي، بل أصبح انفصالاً سياسياً: الأهل في الأرض المحتلة عام 1948 لهم همومهم وقضاياهم، وقد يتضامنون أحياناً مع هموم الأرض المحتلة عام 1967، وقد لا يفعلون ذلك، وينطبق الأمر على الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 1967 من ناحية التضامن مع هموم الأهل في الداخل الفلسطيني المحتل، وأصبحت الضفة وحدها، بدون القدس، وغزة عالم آخر.
بقي هذا الوضع المتشظي سائداً، وأصبحت الوحدة الفلسطينية مفقودة من حيث التواصل الجغرافي والعمل السياسي، إضافة إلى الموقف الوطني، ناهيك عن الجوانب الاقتصادية والإدارية، ولم يبق إلا الموروث الثقافي والمخزون الوطني الذي يتشارك فيه أبناء الشعب الفلسطيني.
ورغم أن الأحداث والتحديات أظهرت الحاجة إلى التعاون والتنسيق المشترك، إلا أن النظام السياسي الفلسطيني قد أظهر بلادة في تعامله مع قضايا الفلسطينيين خارج إطار الضفة الغربية وغزة، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها مشاكل المخيمات الفلسطينية في لبنان التي بلغت أحياناً حد قصف الجيش اللبناني لأحد المخيمات دون أن يتدخل النظام السياسي الفلسطيني، ويُضاف إلى ما تقدم ما يجري من تهويد خاصة في النقب من خلال ما عُرِف باسم مشروع برافر ...إلخ.
كما فشل النظام السياسي الفلسطيني في احتواء المكونات والأطياف السياسية داخل غزة والضفة، ومارس نهجاً قاسياً في التعامل مع غزة بلغت حد التشهير بها، والتحريض عليها، وفرض العقوبات عليها. وبقيت مشاكل الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم تتزايد، ورئيس نظامهم السياسي يُعظِّم تفرده في السيطرة على الحكم، وينكشف مع الأيام عجزه إضافة إلى ضعف نظامه عن إيجاد حلول لمشاكل شعبه التي تجاوزت كل الحدود.
وقد حاول الشعب الفلسطيني، خارج إطار النظام السياسي الفلسطيني توليد استجابات أكثر قدرة على مواجهة التحديات، فواجه أهل القدس بمساعدة من أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948 والضفة الغربية سياسات الاحتلال في أكثر من مرة، نجحوا أحياناً، ولم يحالفهم الحظ أحياناً أخرى، وحاول أهلنا في الضفة مواجهة الجدار والاستيطان، كما حاولت غزة في ثلاثة حروب طاحنة وعشرات عمليات التصعيد، ووجدت غزة نفسها وحيدة، رغم أنها في عام 2014 هبت نُصرة لما يجري في القدس والضفة الغربية.
ومع الوقت تداعي أبناء الشعب الفلسطيني، خارج النظام السياسي وأدواته ومؤسساته، للبحث عن عمل جماعي مشترك، يجمع أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج، وعقدوا مؤتمرات، وحاولوا بناء مؤسسات، لكن رأس النظام أطلق ناره السياسية عليهم، واتهمهم بأبشع الاتهامات، رغم أن من كانوا على رأس ذلك الحراك قامات وطنية مشهود لها بالكفاءة والأمانة.
وجاءت في عام 2018 فكرة مسيرات العودة الكبرى، التي احتشد لإطلاق مبادرتها فلسطينيون من كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، لكن أحداً لم يستطع أن يبادر إلا غزة، وبالفعل استمرت غزة ما يزيد على العام في تنظيم مسيرات أسبوعية تحمل اسم (مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار).
وبين الفترة الأُخرى يبرز حديث عن المصالحة وترتيباتها، ثم يخبو، وتبرز جهود لتنظيم انتخابات ثم تتبخر، وتُثبت التجارب باستمرار -على الأقل من وجهة نظري- أن أغلب الفلسطينيين تعاملوا مع موضوع المصالحة والانتخابات بجدية عالية، إلا رأس النظام فقد ثبت أنه كان يتعامل مع الحوارات والاتفاقيات وأحاديث المصالحة والانتخابات بعبثية مُطلقة، وليس أدل على ذلك من إصداره مرسوم إجراء الانتخابات التشريعية في 22/5/2021، تليها انتخابات رئاسية، ثم استكمال تشكيل المجلس الوطني، وفجأة لحس رأس النظام كلامه، وتراجع عن خطوته بطريقة مكشوفة، رغم أنه حاول تبرير ذلك بأن التأجيل نُصرة للقدس، لكن أحداً لم يُصدقه.
في هذه الأثناء برز تحديان كبيران يخصان الشعب الفلسطيني من البحر إلى النهر: الأول ما يتعرض له أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948 من عبث في أمنهم الشخص بتحريك ورعاية من أجهزة الاحتلال الأمنية، فتصدى أهلنا هناك لهذه الحالة بحراكات نضالية تحت ظل العَلَم الفلسطيني، وبهتافات وطنية، وكان هذا بمثابة إعلان عن سقوط أية إمكانية للتعايش مع هذا المجتمع العنصري المحتل لأرضنا.
والتحدي الثاني تمثل في استمرار النهج الاستيطاني المدعوم من دولة الاحتلال، والذي يستهدف الأقصى خاصة بهدف فرض تقسيم زماني ومكاني لدخول اليهود والمسلمين للمسجد الأقصى، والقدس عامة، وكانت هذه المرة محاولة لإخلاء العديد من أُسَرِنا في حي الشيخ جراح من بيوتهم، فهب أهلنا هناك مع من استطاع الوصول إليهم من الداخل ومن الضفة، وأعلنوا التحدي، وخاضوا المواجهة وقالوا بأعلى صوتهم (حط السيف قبال السيف واحنا رجال محمد ضيف)، وقالوا أيضاً (من شان الله يا غزة يلا).
جاءت هذه اللحظة نتيجة إحساس الفلسطينيين على المستوى الشعب بعجز النظام عن القيام بدوره، وبدأت عملية توليد طبيعية للحظة تاريخية مختلفة وجادة عنوانها (شعب واحد، ونضال مشترك)، هذه الفكرة لم تُولد في صالونات المثقفين، ولا في إطار فعاليات المشاريع الممولة، وإنما من قلب المعاناة، وفي شوارع القدس والله وأم الفحم وعكا.
وبناءً عليه، يجب أن يُعاد تأسيس النظام السياسي الفلسطيني بمقتضى هذه اللحظة، بمعنى كحركة تحرر وطني، تعتمد المقاومة، أما العودة للنظام القديم العاجز والفاشل فهو جريمة، لكن من ساهموا في توليد هذه اللحظة لا أظنهم سيسمحون بذلك.