يمكن القول إن اللحظة الراهنة قد تكون تاريخية بامتياز، بمعنى أن ما بعدها ربما يكون مختلفًا عما قبلها، وهذا يتطلب من المثقفين والأكاديميين وكوادر العمل الوطني الانخراط في ورشة عمل علنية ومفتوحة، تحاول استكشاف المقولات التي أسقطتها هذه اللحظة، والمسارات التي يمكن بناؤها لاستئناف كفاح الشعب الفلسطيني على أُسس أكثر رُشدًا وعقلانية، وأقدر على منع الاحتلال من التمدد، وأكثر ملاءمة لإجبار الاحتلال على التراجع عن سياساته العدوانية.
ويمكن في هذا السياق رصد مجموعة من المقولات التي سقطت، بل ماتت، ويجب نعيها إلى مثواها الأخير، لأن استمرار بقائها ميتة دون دفن سيواصل تسميم الأجواء، وتشويه الأفكار، وتشتيت المواقف، أما دفنها فسيؤدي إلى تطوين بيئة سياسية نظيفة على المستوى الوطني العام.
تتمثل أولى هذه المقولات في أن هذا الاحتلال لا يقبل التعايش أو التجاور مع أبناء الشعب الفلسطيني، والسبب لا يمكن أن يُعزَى إلى خوف هذا الاحتلال من المقاومة أو الصواريخ الفلسطينية، بل إن السبب متجذر في تكوين هذا الاحتلال العنصري الاستيطاني الذي تدفعه طبيعته للتوسع والعدوان، وهذا ما نراه ليس فقط في الأرض المحتلة عام 1967، بل في الأرض المحتلة عام 1948، والأمثلة كثيرة ومتنوعة سواء على صعيد مشاريع تهويد الجليل والنقب، أو على مستوى تشجيع ودعم الجريمة في أوساط أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948.
وبناءً عليه، فإن استمرار تبني بعض التيارات السياسية الفلسطينية للتعايش أو التجاور السلمي مع هذا الاحتلال لا مكان لها، بل يجب العمل على تبني استراتيجية مجابهة وطنية تضم كل الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه.
والمقولة الثانية التي تهاوت في هذه اللحظة تتمثل في اعتبار البعض أن نموذج غزة بائس، وإرجاع السبب في ذلك إلى حكم المقاومة العاجزة عن التجاوب مع الشروط الدولية لإنهاء الحصار، إضافة إلى اعتبار الضفة الغربية نموذجًا جيدًا لتحقيق الازدهار الاقتصادي من خلال الاستجابة لشروط الاحتلال والدول الغربية، وجاء تهاوي هذه المقولة من خلال سياسات الاحتلال الاستيطانية في الضفة والقدس، إذ لا يوجد هناك لا صواريخ، ولا طائرات مُسيَّرة، ولا أنفاق، فلماذا يستهدفهم الاحتلال؟ من الواضح أنه يستهدفهم لأن وجودهم كفلسطينيين يتعارض مع مصالحه، وليس لأنهم يستخدمون هذا الأسلوب من الكفاح أو ذاك.
وهذا يقتضي منا كفلسطينيين أن نتوقف عن اتهام أنفسنا فيما نتعرض له، بل يجب أن ندرك أن هذا الاحتلال هو السبب الوحيد، وأنه يستهدفنا لكوننا فلسطينيين وكونه احتلالًا، وهذا يشمل من يستند منا إلى فلسفة المقاومة في التعامل معه أو أسلوب التجاور السلمي والشراكة الاستراتيجية المبنية على تنسيق أمني ومنع المقاومة.
والمقولة الثالثة التي يجب أن تسقط هي تلك المقولة التي اعتبرت أن السلطة الفلسطينية هي الإنجاز الفلسطيني الأكثر أهمية في العقود الأخيرة، والأدلة أصبحت واضحة على أن هذه السلطة بتكوينها وطريقة عملها عاجزة عن تمثيل إرادة الناس ومصالحهم، وقاصرة في مجال مواجهة الاحتلال، وفاشلة في مجال تحقيق الاستقرار والتنمية، بل إنها انتقامية وعصبوية في التعامل مع الشأن الداخلي، الأمر الذي يتطلب إدخال تعديلات جوهرية على بنية السلطة ووظيفتها ودورها.
والمقولة الرابعة التي يجب أن تسقط تتمثل في أن المصالحة بين فتح وحماس هي المدخل الأوحد لاستعادة الشعب الفلسطيني زمام المبادرة، وطالما بقيت هذه المصالحة متعذرة فإن حالة الشلل ستبقى سيدة الموقف في الساحة الفلسطينية، لكن أحداث القدس أطلقت مقولة مختلفة تتمثل في أن الكفاح على الأرض في مواجهة المعارك التي يفرضها المستوطنون هي الطريق الأنسب لإجبار فتح وحماس على التوحد، وإلا فإن الشعب سيتجاوز من يتمترس خلف مواقف فئوية وحزبية ضيقة.
والمقولة الخامسة التي سقطت تتمثل في اعتبار أننا كشعب لا حول لنا ولا قوة، وأن مقاومتنا تؤذينا، وأن السبيل الوحيد أمامنا هو ترسيخ صورة الفلسطيني المسكين الضحية، ومطالبة العالم بدعمه ماليًا وسياسيًا، وكف يد الاحتلال عنه. لقد أسقطت أحداث القدس في كل المواقع أن هذه المقولة لا تُطعم ولا تُسمِن، بل إن العالم بدأ يلتف حول الفلسطيني الصنديد، الذي يهتف بأعلى صوته (حط السيف قبال السيف)، وفي هذا إعلان من القدس والأقصى عن تخلي الفلسطينيين عن نهج المسكنة في التعامل مع الاحتلال، واللجوء إلى نهج مختلف، يعتمد على استجماع موارد القوة، وبناء أساليب مقاومة قادرة على تحقيق الهدف.
وما يجري من أحداث في فلسطين، من بحرها إلى نهرها في هذه اللحظة التاريخية، يُشير إلى أن الأمور تسير في اتجاه بناء مسار كفاحي جديد، يتكئ على القدس كمركز له، وتتسع دوائره، ويتوحد حوله كل أبناء الشعب الفلسطيني، إذ يتصدر أهلنا في القدس ببسالة لسياسات الاحتلال، ويحققون انتصارات في أغلب المواجهات، وأهلنا في الضفة المحتلة، وفي الأرض المحتلة عام 1948 يُهرعون للنجدة، لكن ليس بمنطق (عليهم يا رجال)، وإنما في إطار استراتيجية واعية لإلحاق الهزيمة بكل الخطوات العدوانية الجديدة، والأمثلة عديدة على ذلك (الخان الأحمر، والبوابات الإلكترونية)، وكل المؤشرات تفيد بأن الانتصار سيتحقق في الشيخ جراح.
وغزة المحاصرة تضع إمكاناتها تحت تصرف القدس، بطريقة محسوبة وعاقلة وتدريجية، تُطلق الفعل، وتراقب الردود بأكثر من منهجية، وقد تمكنت في أكثر من مرة من دفع الأمور باتجاه حافة الهاوية دون أن تقع فيها، ولكن بعد أن تُحقق بعض المكاسب التكتيكية لصالح الشعب الفلسطيني.
أما أهلنا في الأرض المحتلة فإنهم يخوضون كفاحًا متعدد الوجود، مرة للمطالبة بالعيش الكريم، وأخرى بحماية القدس ودعم أهلنا فيها، وفي الكثير من الأحيان بمجابهة السياسات الاحتلالية التخريبية، واللافت أن الكثير من تلك النضالات تجري تحت عناوين وطنية، ويرفعون خلالها الأعلام الفلسطينية، ومثال ما جرى مؤخرًا في أم الفحم ويافا واضح الدلالة.
نحن، بلا شك، أمام لحظة تاريخية، تتطلب استنفارًا معرفيًّا من كل المثقفين والفاعلين لدفع الأمور باتجاه نهج كفاحي أكثر رشدًا وقدرة على تحقيق الإنجازات.