يعكس السلوك السياسي للسيد محمود عباس وفريقه حالة القلق والتوتر وانعدام اليقين التي تسيطر عليهم، يظهر هذا من خلال مراسيم إلحاق القضاء بمكتبه، والإصرار على تحجيم دور المؤسسات غير الحكومية من خلال قانون يتحكم في تفاصيل عملها، وسبق ذلك تشكيل محكمة دستورية بطريقة مخالفة للدستور، وذلك بغرض التحكم في العمل السياسي والحكومي بشكل مطلق. ولا ينسى أحد استخدام محمود عباس مؤسسات السلطة وأموالها في قمع معارضيه بمختلف أطيافهم.
يتبنى السيد محمود عباس هذه الإجراءات، لأنه يُدرك أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم إلا من خلال قبضة حديدية، وإجراءات عنيفة رادعة تُخيف كل من يفكر في الاعتراض عليه، وهو لم يتمكن من مصالحة، لا خصومه على الصعيد الوطني، أو داخل حركة فتح.
وتجدر الإشارة إلى أن أي نظام حكم لا يستطيع القيام بواجباته في حفظ الأمن والاستقرار، إضافة إلى رعاية مصالح الناس إلا إذا تمتع بشرعية سياسية عالية، وكفاءة إدارية واقتصادية متميزة، إذا توفر هذان الشرطان فإن النظام الحاكم يستطيع إدارة شؤون البلاد بسهولة، ويحقق أعلى درجات الاستقرار والازدهار الممكنة، ولن يلجأ للقمع والعنف والاعتداء على الحريات، وسيقتصر استخدامه لأدوات الإكراه على ملاحقة المجرمين فقط.
أما إذا فقد النظام شرعيته وكفاءته في وقت واحد، فإنه سيلجأ لاستخدام أدوات الإكراه، خاصة إذا كان مصرًا على الاستمرار في التفرد ونهب خيرات البلاد، وإذا تمتع بشرعية سياسية عالية وكفاءة منخفضة فإنه سيلجأ إلى استخدام أدوات الإكراه بشكل منخفض، وينطبق الأمر نفسه في حالة امتلك النظام الحاكم كفاءة اقتصادية وسياسية وإدارية عالية في ظل شرعية منخفضة.
ما الحالة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني تحت هيمنة محمود عباس وفريقه على هذا النظام؟ للتوضيح لا بد من عرض حالة الشرعية والكفاءة في الحالة الفلسطينية، وموقع محمود عباس في الجانبين.
استندت القيادات الفلسطينية، على مدار قرن مضى، إلى شكل من أشكال الشرعية، التي يمكن حصرها في ثلاثة أشكال رئيسة: أولها هو الشرعية التوافقية، والشكل الثاني هو الشرعية القانونية، أما الشكل الثالث فهو الشرعية الثورية. بخصوص ما يتعلق بالشرعية التوافقية، فإنها الأكثر حضوراً في الساحة السياسية والنضالية الفلسطينية، وبدأ هذا النوع من التوافق منذ عام 1920 حيث المؤتمر الفلسطيني ولجنته التنفيذية، وبعد ذلك اللجنة العربية العليا، وصولاً إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كانت الشرعية التوافقية هي سيدة الموقف، لكنها كانت تتعزز على مدار الوقت بالشرعية الثورية الكفاحية، إذ كانت القيادات أو الأحزاب الأكثر حضوراً في ميدان المقاومة هي التي تتولى زمام القيادة.
ومع تشكيل السلطة الفلسطينية عام 1994، بدأ موضوع الانتخابات لمنصب رئيس السلطة والمجلس التشريعي يأخذ مكانه في منح الشرعية القانونية لرئاسة السلطة وبرلمانها، أما مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية فخسرت مؤسساتها التوافق، ولم تجري لها انتخابات طيلة الوقت، وبقيت قيادة منظمة التحرير تُصر على أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد، لكن قيادة المنظمة لم تقُم بأي جهد من أجل علاج مسألة شرعية قيادة المنظمة، وبعد عام 2009 أيضاً لم تقم بعمل شيء من أجل حل مشكلة شرعية الرئيس، ولم يقتصر الأمر على هذا بل قامت المحكمة الدستورية التي شكلها محمود عباس بحل المجلس التشريعي.
يمكن القول إن هنالك اتفاقًا فلسطينيًّا عامًّا على فقدان القيادات القائمة شرعيتها، وأبرز الشواهد والأدلة على هذا الأمر هو اتفاق القاهرة بين الفصائل في مارس 2005، حيث اتفقت كل الفصائل أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى قيادة جديدة للسلطة والمنظمة في الوقت نفسه، ولكن السيد محمود عباس، وبعد إجراء انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 توقف عن إكمال المسيرة، ورغم كل الحوارات والاتفاقيات بقي محمود عباس يحتكر كل أنواع السلطة في يده.
أما على صعيد الكفاءة، فقد تراوحت الكفاءة بين فترة وأخرى، حيث أبرزت القيادات الفلسطينية كفاءة وتحقيق إنجازات على الصعيد الوطني، وتحققت إخفاقات، وتغيرت قيادات الشعب الفلسطيني، على مدار القرن أكثر من مرة، لكن فيما يتعلق بكفاءة السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس فقد أظهرت ضعفاً، بل عجزاً واضحاً على صعيد الكفاءة، ويمكن تسجيل مؤشرات هذا العجل في مجالات عديدة، منها مضاعفة الاستيطان حوالي ثلاث مرات فترة حكم محمود عباس، وفرضه عقوبات على غزة، واحتجاجات نقابات المعلمين والأطباء وغيرها في الضفة الغربية، إضافة إلى احتجاجات نقابة المحامين بشأن تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
وربما أخطر القضايا التي أظهرت ضعف الكفاءة للنظام الذي يهيمن عليه محمود عباس هي مسألة الخلافات والانشقاقات في حركة فتح، وهي خلافات بين مراكز قوى متفقة في المواقف السياسية، ولا اعتراض لديها على التنسيق الأمني، لكن السبب الرئيس لخلافاتها هو الاعتراض على قضايا فساد في إدارة الشأن المالي والسياسي والاقتصادي والسلطوي، وقد شهدت تبادل الاتهامات بين هذه الأطراف اتهامات تقترب من حد الخيانة العُظمى، وهذا منشور في مقابلات تملأ اليوتيوب على الإنترنت.
بعد العرض السابق، يمكن القول إن هذا النظام الذي يديره محمود عباس قد فقد كل أشكال الشرعية سواء القانونية أو التوافقية أو الثورية، كما أنه يعاني ضعفًا في الكفاءة، والأنظمة التي تعيش مثل هذه الحالات، ولا تملك ما يمكن أن تُقنع أو تُغري به شعبها، لا يبقى أمامها إلا القمع من خلال استخدام أدوات الإكراه القانونية والشُرَطيّة لتخويف الناس والحصول على إذعانهم.
لكن ما حدث مع المرشح للمجلس التشريعي نزار بنات في مدينة الخليل بتاريخ 1/5/2021، حيث استُدعي للنائب العام بسبب رسالة وجهها للاتحاد الأوروبي يطالب فيها بالتحقق من طريقة صرف السلطة للأموال التي تتلقاها من الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت قيام مجموعة من الزعران بإطلاق النار على بيته، وإحداث الكثير من الخراب والتدمير، إن هذا الاعتداء يؤكد أن هذا الفريق الفاقد للشرعية والكفاءة، بلغ حالة من الذعر على مواقعه تدفعه، ليس فقط لاستخدام أدوات الإكراه التي تملكها السلطة، بل إنه لجأ إلى أساليب الزعرنة لتخفيض سقف الحريات، لأن هذا النظام لم يعُد قادراً على الوصول إلى توافق أو تعايش مع أي طرف من المخالفين، وعليه فإن استمراره في الحكم خطِر وضار، ويجب أن تُصبح عملية تغيير هذا النظام والفريق المسيطر عليه أولوية وطنية.