شغلت مدينة القدس خلال الشهر الأخير، وفي سياق التفاعلات الانتخابية، المهتمين من أحزاب ومثقفين وإعلاميين، الكل يعلن اعتزازه بها، وتمسكه بكونها ثابتًا من ثوابت الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ويمكن تسجيل هذا الانشغال في محاور ثلاثة، هي: المحور الأول يُشدِّد على أن الانتخابات يجب أن تشمل القدس تصويتًا وترشحًا، ويُشددون أن القدس جغرافية، وليست ديموغرافية، ويصرحون بأنه لا انتخابات دون القدس، دون أن يفهم أحد هل هذا هو تهديد للإسرائيلي أم إصرار على الرضوخ المستمر لرغبة الإسرائيلي وإرادته؟ والمحور الثاني يركز على أن الانتخابات في القدس فرصة لخوض المعركة مع الاحتلال داخل المدينة وفي محيطها، خاصة إذا أصر الإسرائيلي على منع الانتخابات فيها، دون أن يشرح كيف سيخوض هذه المعركة، وكيف سيتم التصويت على إيقاع المعركة والمواجهة مع الاحتلال، وكيف سيتم ضمان عدم التزوير أو على الأقل عدم حدوث خلل في العملية الانتخابية، والمحور الثالث يتعامل مع المسألة وكأنها محسومة بسبب وجود بروتوكول متفق عليه بين الاحتلال وبين السلطة، أي إجراء الانتخابات بنفس الطريقة التي حصلت فيها عامي 1996، وكذلك 2006.
لا بد من القول إن هذا النقاش يشير إلى أن النظام السياسي الفلسطيني بلغ حالة محزنة من الاهتراء، إذ يتم اتخاذ قرار إجراء الانتخابات بعد مخاضات داخلية عسيرة، واختبارات متعددة لنوايا الأطراف الداخلية، ثم يكتشف الحاكم بأمر السلطة أنه قد غفل عن وضع القدس، ويتذكر أنه بحاجة للاستئذان من قوة الاحتلال التي تسيطر على بلادنا، والتي يؤمن هو بضرورة الخضوع لها.
وبينما تنتظر قيادة السلطة الإذن الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس، إذا بالمستوطنين يشنون هجمة جديدة على المدينة والمسجد الأقصى فيها، فهب الشباب يتصدون، بنخوتهم وعفويتهم واستجابتهم لنداء الواجب، لهذا العدوان الاستيطاني ببسالة تبعث على الفخر، وتجعل المتابع يتأمل في هذه الهبة الشبابية ويحاول استخلاص ما تختزنه من معانٍ، والتي يمكن تسجيلها في النقاط التالية: أولًا، وجود طاقة كامنة في مدينة القدس، أكدت جهوزيتها في مراحل عديدة خلال السنوات الأخيرة، رغم أن أهلها لا يملكون سوى الكفوف الفارغة والصدور العارية، ويشعرون بالخذلان. ثانيًا، احتفاظ أهل القدس بعبقريتهم الكفاحية، وإحساسهم بالمسئولية العالية إزاء الواجب، التي تجعلهم قادرين على التقاط اللحظات التاريخية وتفجير الثورات منذ ثورة النبي موسى سنة 1920 وحتى الهبة الأخيرة التي ما زالت أحداثها تتوالى. ثالثًا، هذه المعركة دفاعية تأتي ضمن تكتيكات أهلنا في المدينة للحفاظ على ما تبقى من وجودهم في المدينة، ومنع المستوطنين من استكمال السيطرة عليها. رابعًا: كأنها رسالة من أهل القدس للسياسيين الفلسطينيين تفيد بأن القدس تفتح أبوابها من أجل الفعل الوطني الذي يزداد جمالًا وألقًا عندما يكون رغم أنف الاحتلال. خامسًا: المعركة من أجل القدس ممكنة، وأدواتها متيسرة، وغير مكلفة، لكنها بحاجة إلى إرادة، ويصر الشباب دائمًا على تقديم النماذج على صحة هذه الحقيقة.
إن ما حدث من نقاش بشأن أخذ الإذن لإجراء الانتخابات في القدس، أو فعل ميداني كفاحي من أجل صد المستوطنين والحفاظ على ما تبقى من عروبة القدس، إن هذين الأمرين يوجبان على المثقفين والأكاديميين والسياسيين العمل بشكل جديد يبتعد عن الابتذال في السياسة، ويطور الفعل المقاوم من حالته العفوية التي نفتخر بها، ولكن ندعو إلى تطويرها، ويمكن هنا تسجيل مجموعة من محاور العمل التي يمكن أن ترتقي بالأداء من أجل القدس، وتتمثل في:
أولًا: ما حصل يفرض على الجميع التخطيط للانتقال من المعارك العفوية الدفاعية التي يفرضها المستوطنون والمبادرة إلى معارك هجومية تستهدف اقتلاع كل البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة بالتدريج، لكن بمثابرة وتصاعد وانتظام.
ثانيًا: وبموازاة الخطوة الأولى يجب العمل على خوض معركة من خارج القدس (من الضفة ومن الأرض المحتلة عام 1948)، وجوهر هذه المعركة يتلخص في تكثيف الاشتباك على الحواجز المحيطة بمدينة القدس، وذلك من أجل كسر الحصار عن مدينة القدس.
ثالثًا: أثبتت التجارب السابقة أن سلوك جمهور المستوطنين يتسم بالاندفاع والتهور والإجرام عندما يكون آمنًا، لكنه يلجأ للإحجام والتراجع والهرب عندما يجابه بمقاومة، وهذا يتطلب إنضاج عمل مقاوم يستهدف التجمعات الاستيطانية المحيطة بالقدس، وذلك على طريق دفع المستوطنين لمغادرة المستوطنات.
رابعا: إنشاء صناديق فلسطينية وعربية وإسلامية، خاصة بتثبيت الوجود الفلسطيني في القدس من خلال دعم الاقتصاد بكل فروعه وأشكاله، وهذا يشمل التجارة، وبناء المؤسسات، وتوفير فرص العمل.
خامسًا: رفع شكاوى ضد جرائم دولة الاحتلال في المدينة المقدسة بشكل منهجي ومتواصل لدى مؤسسات حقوق الإنسان، وتدشين وتدريب فرق للعمل في مجال الدبلوماسية الشعبية والعامة من أجل وضع معاناة القدس ونضالها على كل طاولات القرار في العالم.
سادسًا: تحويل ساحة الأقصى وشوارع القدس إلى ساحات للاشتباك الدائم مع قوات الاحتلال، وهذا لا يتطلب أعدادا كبيرة بشكل دائم، وإنما من خلال تحويل سلوك الكتلة الاجتماعية الفلسطينية في القدس إلى نمط كفاحي رافض للوجود الاحتلالي.
سابعًا: جعل موضوع حماية القدس مجالًا للنضال المشترك بين كل الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، وابتكار أدوات ووسائل وأشكال كفاح جديدة ومتجددة لجعل موضوع القدس حاضرًا، وتجنيد الدعم المالي له متواصلًا، ومطالبة الجهات التي يمكن أن تتضامن معنا بشأن القدس مستمرة.
لا شك أن العمل على إنجاز النقاط السبع سابقة الذكر ليس بالأمر السهل، لكنه ضروري، ولا بديل عنه، ومن دونه سيكتمل المشروع الصهيوني في القدس سواء على صعيد الاستيطان حول المدينة، أو شراء الأرض داخلها، أو تقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا.