لفت انتباه المتابعين للشأن التركي في الآونة الأخيرة عدد من الزيارات واللقاءات، كان أبرزها استقبال رئيس الجمهورية التركي لرئيس حزب الدعوة الحرة (HUDAPAR) الحزب الإسلامي الأيديولوجي ذي التوجه القومي الكردي واحتفاء الإعلام المقرب من الحكومة التركية بذلك، ثم تلاها زيارة أردوغان شخصيًّا لرئيس مجلس شورى حزب السعادة الإسلامي في بيته علنًا بعد عدد من الزيارات غير المعلنة للرجل لرئيس الجمهورية في بيته في إسطنبول، وتردد إعلاميًّا الحديث عن احتمالية محاولة للم شمل التيار الإسلامي الأيديولوجي المنخرط بالعمل السياسي أو ما أصبح دارجًا اصطلاحًا بالإسلام السياسي.
من يمثل الإسلام السياسي في تركيا؟
يعد البعض أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا هو الممثل الشرعي والوحيد لهذا التيار، لكن هذا التقييم يشوبه بعض الخلل، ولذا لا بد من التدقيق في تركيبة الحزب من حيث التوجه السياسي وكذلك تفصيل التوجهات السياسية للأحزاب المحسوبة على الإسلام السياسي.
فحزب العدالة والتنمية لا يصنف نفسه ضمن إطار الإسلام السياسي بل لا يعد نفسه إسلاميَّ المرجعية بل حزبًا وطنيًّا ديمقراطيًّا محافظًا، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن التركيبة الداخلية للحزب تعطي صورة عن فكره، ففي الحزب عدة تيارات متقاربة منها التيار الليبرالي المحافظ -يمين الوسط- الذي قدم سياسيوه لحزب العدالة والتنمية من أحزاب الوسط التي تلاشت مع صعود العدالة والتنمية كحزبي الوطن الأم والطريق القويم وقد بدأ تراجع تأثير هذا التيار في الحزب نوعًا ما بعد بداية المواجهة عام 2013 مع تنظيم الدولة الموازية -جماعة فتح الله جولن- وازدادت وتيرته بعد الانقلاب الفاشل 2016، ويقال إن آخر قلاع هذا التيار في الحزب كان صهر الرئيس والذي تمت إقالته -استقال- قبل أشهر من منصبه بعد أن توقع البعض أن يكون هو أحد البدائل في خلافة الرئيس الحالي أردوغان. ومن ملامح هذا التيار أنه كان ضد ملاحقة الإسلاميين في عهد رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان وضد ممارسات الدولة تجاه المتدينين من منع الحجاب واللحى ومطاردة الجماعات والجمعيات المحسوبة عليهم ولكنهم في نفس الوقت كانوا يؤمنون بالدولة التركية العلمانية في القانون والممارسات، ورغم تراجعه ما زال موجودًا داخل الحزب، وحتى أن عددًا لا بأس به من رجال الدولة اليوم محسوبون على هذا التيار.
أما التيار الآخر فهو التيار القومي المحافظ والذي أصبح الأكثر ظهورًا في الحزب وصعد نجمه أكثر في نفس فترة تراجع التيار الليبرالي في الحزب، إذ إن التيار القومي الذي كانت له قوة واضحة في الأجهزة الشرطية شارك وبشكل قوي في كبح جماح تيار التنظيم الموازي في الأجهزة وساهم في منع ممارساتهم ضد الدولة وقياداتها ومن أهمها منعه لاقتحام منزل الرئيس التركي في ليلة 25 ديسمبر 2013 لاعتقال نجله واتهام الرئيس شخصيًّا بقضايا فساد.
ومع تصاعد الهجوم الداخلي والدولي على الدولة في تركيا وحصول التقارب الواضح بين حزب الحركة القومية -يدعم الحكومة من الخارج- ثم تكليف الشخصية الأشهر في هذا التيار القومي سليمان صويلو بدعم من حزب الحركة القومية بوزارة الداخلية ازداد تأثير هذا التيار في الحزب بل وأصبحت النبرة القومية هي الأكثر بروزًا في خطاب الحزب الداخلي ودعم ذلك العمليات العسكرية التركية خارج حدود تركيا وحاجة الدولة لتغذية الخطاب المبرر لها بخطاب تركي قومي لجمع الشارع التركي خلف هذه العمليات ولم يكن تكثيف الحس القومي في الدراما التركية التاريخية والعسكرية والتي تبث على القنوات الحكومية أو المقربة منها شيئًا عبثيًّا وغير محسوب في التأثير على توجهات قواعد الحزب وأنصاره إذا علمنا أن الأتراك من أكثر الشعوب متابعة للتلفاز والدراما.
ثانيًا: الإسلام السياسي موزع على أكثر من حزب، أما التيار الإسلامي الأيديولوجي وهو المشكل للحزب والحاضنة الأولى لمعظم القيادة المؤسسة لحزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ذو التوجه الإسلامي الأيديولوجي ويعد تيار المللي جوروش هو الاسم التركي لما يعرف بالحركة الإسلامية في العالم العربي والذي أسسه المرحوم نجم الدين أربكان وتربى في محاضنه أردوغان ورفاقه ولكن هذا التيار وفي عدة مراحل تعرض لهجمات من الدولة أفضت إلى إغلاق أحزابه السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التابعة له في أكثر من مرة وتعرض لانشقاقات كان أكبرها وأخطرها عليه هو تأسيس حزب العدالة والتنمية في تحدٍّ للمؤسس في حياته، فأصبح تيار الإسلام السياسي في تركيا منقسمًا في معظمه بين الكتلة الأكبر في حزب العدالة والتنمية وهي الكتلة الأكثر مرونة وبراغماتية والتيار الأوضح أيديولوجية وأكثر صرامة بقي ضمن حزب الفضيلة ثم السعادة بعد إغلاقه وبقي نجم الدين أربكان هو الأب الروحي والقائد لهذا التيار حتى وفاته عام 2011 وبقي الحزبان على خلاف حتى حينه رغم محاولات رأب الصدع أو حتى التفاهمات المتكررة التي تمت في عدة مواسم انتخابية لكنها لم تنجح.
رغم تقاسم الحزبين -العدالة والتنمية والسعادة- لغالبية تيار الإسلام السياسي التركي وحتى بعض الأكراد فإن الإسلاميين الأكراد يرون أن هذه الأحزاب -رغم أنها تقع ضمن تيار الإسلام السياسي- تدور في فلك الدولة القومية التركية، والتي يعدونها شريكًا في ما حل بالأكراد من آلام وويلات منذ تأسيسها حتى الآن بل وزادت نبرة هذا الخطاب القومي لدى الأكراد الإسلاميين بعد التقارب بين الحكومة وحزب الحركة القومية وكذلك صعود التيار القومي في حزب العدالة والتنمية.
سيناريوهات مستقبل الإسلام السياسي في تركيا:
بعد الزيارة بدأ الكثيرون في الحديث عن مستقبل الإسلام السياسي والسيناريوهات المتوقعة له في السنوات القليلة القادمة خاصة أننا مقبلون خلال سنتين ونصف تقريبًا -إن لم يضطر العدالة والتنمية للتوجه لانتخابات مبكرة- على انتخابات رئاسية وبرلمانية مهمة وحرجة ويحتاج فيها التكتل الحاكم لكل الأصوات والمصدر الأهم لهذه الأصوات هم الإسلاميون الأيديولوجيون بين الأتراك والأكراد الذين رغم صغر حجمهم إلا أنهم قادرون على التأثير في النتائج العامة وفي بعض المناطق التي تعد معاقل لهم.
ويعتقد أن لهذا التقارب هدفين أساسيين قد يشكل بناء عليهما مستقبل الإسلام السياسي ويحميه من التآكل أو الانقسام بين الكتل والتيارات مما يفقده وزنه وأثره أحدهما قصير المدى والآخر استراتيجي وبعيد المدى، وهما:
أولًا- الحفاظ على قوة التيار في العدالة والتنمية ومنها في الحكومة والبرلمان القادمين:
فالحديث في الكواليس يدور عن أن يدعم كل من حزب السعادة الإسلامي وحزب الدعوة الحرة الكردي الإسلامي وقواعدهما -رغم صغر حجميهما في الأصوات حوالي 1.5%- العدالة والتنمية، فيضمن العدالة والتنمية هذه النسبة التي يحتاج إليها في ظل النظام الرئاسي الذي يصنع فيه كل صوت فرقًا ومن ناحية أخرى سيشجع العديد من الإسلاميين والمحافظين الذين استنكفوا عن التصويت في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة ونسبتهم تقدر 3-5% بما أثر سلبًا في أصوات العدالة والتنمية والذين كان من الممكن استقطابهم عبر الأحزاب الجديدة المنشقة عن العدالة والتنمية مثل حزب المستقبل وحزب الدواء وكذلك استعادة أصوات الإسلاميين والمحافظين الأكراد عبر دعم حزب الدعوة الحرة في المناطق التي يغلب عليها الأتراك ذوو الأصول الكردية.
ثانيًا- تدعيم موقف تيار الإسلام السياسي وتوحيده لما بعد أردوغان:
وهذا الأمر ينطلق من حساب أسوأ الاحتمالات فيما يخص خلافة أردوغان خاصة أن الأحزاب التركية كلها بما فيها حزب العدالة والتنمية عانت وتعاني دائمًا أزمةَ القيادة بعد القائد الأقوى -وقد فصلت ذلك في مقالي بعنوان "الأحزاب السياسية التركية وأزمة القيادة"- وفي خلافة أردوغان فمن الصعب جدًا تحديد وريث لأردوغان خاصة أن الحزب كما عرجت في بداية المقال لا يتشكل من تيار متجانس ورغم تراجع حظ صهر أردوغان الذي كان ضعيفًا أصلًا إلا أن انسحابه من الواجهة زاد من فرصة وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو الرجل القوي في الحزب والمدعوم من التيار القومي داخل الحزب ومن حزب الحركة القومية الحليف الخارجي للحكومة.
أما تيار الإسلام السياسي فمع انشقاق داود أوغلو الذي كان يعد الرجل الثاني في الحزب وتراجع الصوت الإسلامي الأيديولوجي في دوائره أصبح يعاني عدم وجود مرشح قوي له لخلافة أردوغان ولو وجد فسيعاني ضعف دعم وإسناد قواعد الحزب، لذا كان من المهم استعادة لحمة هذا التيار في داخل الحزب وإسنادها بكتلة من خارجه ليكون قادرًا على المنافسة.
ولكن ليس خلافة أردوغان فقط هو المستهدف من هذا التقارب على المدى البعيد فالسيناريو الأسوأ والذي يستعد له الكثيرون لكنهم لا يتحدثون عنه هو احتمال حدوث انقسامات كبيرة في حزب العدالة والتنمية بعد أردوغان وفي حال حدث ذلك فقيادة التيار الإسلامي السياسي -بمن فيهم أردوغان- تريد لهذا التيار أن يصل هذه المرحلة وقد كسر جليد التقارب داخله وبدأت تتبلور صورة تيار موحد بقيادة مقبولة من القواعد بعد تقبل القيادة الروحية لها.
تحديات أمام هذا التقارب
من المعروف أن رئيس حزب السعادة وبعض قيادة الصف الثاني في حزب السعادة من ناحية والتيار القومي في العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية من ناحية أخرى ليست متحمسة بل ومعترضة نوعًا ما على هذا التقارب. وقد سعت أطراف في داخل العدالة والتنمية وفي حزب السعادة للتقارب عدة مرات لكنها اصطدمت بمواقف هذين الفريقين.
ولهذا يبدو أن أردوغان طبخ الأمر على نار هادئة مع الأب الروحي لحزب السعادة أوزان أصيل ترك من ناحية ولين موقف الحركة القومية عبر رئيس الحزب كي يخفف من ردات الفعل المعارضة.
وما زال السعي لهذا الهدف في بدايته وفي حال نجح سيعود تيار الإسلام السياسي ليكون الكتلة الأهم التي تتحكم بمآلات الأمور وتمنع عودة الاضطهاد للإسلاميين والمتدينين في حال تغيرت الأمور بما لا يتمناه الإسلاميون في تركيا.