في ذلك اليوم الخريفي الاستثنائي من أواخر عام 2010 انبجست اللحظة المدهشة، فأحالته ربيعًا عاش خلاله المواطن العربي أيامًا باذخة الجمال، استعاد فيها شيئًا من سماته القديمة، وبشره بأيام مزهرة، بعد أن ظل تحت الأنقاض عقودا، وهو يتحايل على المذلة ويتكيف مع مقتضياتها.
الذين حلموا بتحول سريع أصيبوا لاحقًا بانتكاسة نفسية فادحة الأثر، إلى درجة تحول بعض منظري الربيع العربي إلى مشككين في دوافعه، ومتحاملين على المنخرطين فيه، ومتحسرين على زمن الاستقرار الموهوم قبله، حتى وإن كان تحت نعال الطغيان.
لن يكون مهمًا اليوم محاكمة الأحلام السالفة وجلد المبالغة في التوقعات لدى من راهنوا على مرحلة الربيع العربي أو استعجلوا قطف ثمارها أو أخطؤوا تقدير موقف هنا أو هناك، فهذه دروس ستظل تتوالد من الوقت، وكلما طال عمر هذه المرحلة الدموية من عمر الأمة، وهي مرحلة انتعاش المستبدين وضعف مناوئيهم، لكن المهم اليوم الوقوف على مشارف القادم والإعداد له، باستيعاب ووعي ما قررته السنوات العشر المنصرمة من حقائق.
لقد بدأ ربيع المستبدين منذ أن تبين الخيط الأبيض من الأسود من نتائج أوائل الثورات، فظهر أن القوى الإسلامية ستكون إفرازًا طبيعيًا لصوت الشعب في حال أتيح له أن يعبر عن رغبته ويختار ممثليه بنزاهة، وما كانت هذه الحرب المسعورة لتنطلق ضد قوى التحرر والتغيير الإسلامية لو أن هذه القوى كانت ضعيفة الفاعلية، أو هامشية في وعي الأمة وضميرها.
غير أن هذا كله يفرض مسؤوليات شتى على الحركات الإسلامية اليوم على مستوى الأمة، أولها أن تعي مركزية دورها الراهن أو المنتظر منها، لأن كل هذا الهلع من حضورها وكل تلك الجهود المبذولة لتغييبها وإبقائها مستنزفة تعني شيئًا واحدا، هو أن التيار الإسلامي ند الطغيان والاستبداد، والمعول عليه لصناعة نهضة حقيقية على مستوى الأمة، لكن هذه النهضة لن تتحقق في ظل الاحتلال والاستبداد، مع ما بينهما من تقاطعات ومصالح وغايات مشتركة.
والوعي بأهمية الدور يلزمه مبادرة للتحرر من قيود الواقع الراهن، وعدم الاكتفاء بالدور الإعلامي المتابع لمشهد النزيف في جسد التيار الإسلامي، والراصد للمؤامرات المحاكة ضده، والمكتفي بالتعليق والإدانة، الدور الإعلامي مهم دون ريب، لكن لا يجوز أن يصبح الشيء الوحيد المنتهج في عالم يموج بالمتغيرات، مع ما تخلفه من ثغرات، يمكن النفاذ منها أو استثمارها لصناعة التغيير، والمبادرة للفعل، وتجاوز مرحلة الاستضعاف.
هذا العالم بات متخمًا بالكلام، وكثير مما يقال لا يعد جديدًا، ولن يكون ذا قيمة إن لم يؤسس لتحرير إرادة الفعل من عقالها، وهذا العالم أيضًا لا مكان فيه إلا لذوي الأقدام الثقيلة، ومن يصيغون بقوتهم معادلة حضورهم رغمًا عن أعدائهم، وما عاد مجديًا المراهنة على حدوث المفاجآت والصدف، أو تملق المستبدين وتوقع الخير منهم، أو الظن بأن الاكتفاء بالصبر السلبي سيصنع فارقًا في مشهد التوحش هذا.
كان التيار الإسلامي الحركي من أبرز ضحايا الثورة المضادة، لأن رأسه كان المطلوب في سبيل إيقاع الهزيمة بعزائم رواد الثورة والتغيير، وكان اغتيال الإسلاميين معنويًا وتشكيك الشارع العربي بهم وتأليبه عليهم مقدمةً للانقضاض عليهم، بمباركة الثوريين الزائفين، الذين لم يجدوا ضيرًا في التحول لأدوات لدى أركان الدولة العميقة وأنظمة الاستبداد والقمع، المتحرية حماية عروشها مهما كلف الأمر، وحتى لو كانت أمواج الثورات الشعبية بعيدة عن شواطئها.
ومع كل هذا، فليس دقيقًا القول إن عصر الإسلام الحركي أو الإسلام السياسي قد أفل وانقضى، فما يزال حملة لوائه الأجدر بخوض غمار أية مواجهة مع المحتلين أو المستبدين على حد سواء، لكن هناك أهمية كبيرة اليوم لأن يسارعوا في تضميد جراحاتهم، والاستعداد على جميع المستويات للمرحلة القادمة، واستعادة أبجديات الفهم الحركي لدور العنصر الرسالي، بعيدًا عن الكسل واللامبالاة، أو الاكتفاء بالتموضع في الهوامش، بحجة انتظار مرور العاصفة من فوقهم.
مرحلة الاستضعاف والابتلاء لا بد منها لكل أصحاب المناهج الرسالية، التي تختار أن تكون ندًا لمناهج الفساد والطغيان، لكن وقوعها لا يجوز أن يعني التسليم بدوامها واعتياد تطوراتها الساحقة كل عوامل النهوض، لأن المحنة تتقدم وتتعمق وتصبح عنوانًا للتيار الواقعة عليه وملازمة إياه إن اكتفى بالتعايش معها والتأقلم مع ظروفها، لكن ثمة فعلًا يظل مطلوبًا وممكنًا إن تقدم الركب رواد فاعلون، بهمم صلبة، وإرادة متينة، وآليات إعداد وعمل جديدة، والساعي في طريق سيبصر مسارب عديدة فيه وطاقة عالية في نفسه، ما كان ليدركها لو بقي في مكانه.