انتهى أول من أمس في القاهرة اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، دون أن تترتب عليه خطوة عملية في أي اتجاه، وخاصة ما يتعلق بدعم مسار مواجهة الاحتلال، أو ترتيب الحالة السياسية الفلسطينية، أو إبداء قيادة حركة فتح والسلطة أي استعداد لوقف سياسات مجابهة المقاومة وملاحقة النشاط الوطني في الضفة الغربية. وهي نتيجة كانت متوقعة في كل الأحوال، وخصوصاً بالنظر إلى الاجتماع الكبير للأمناء العامين الذي عقد قبل ثلاثة أعوام، وترتبت عليه لاحقاً تفاهمات عديدة، في عدة قضايا، أهمها إجراء انتخابات شاملة متدرجة، وتوقيع ميثاق شرف لصون الحريات ووقف الملاحقات السياسية، ثم تم شطب كل ذلك بجرة قلم من محمود عباس، عندما ألغى الانتخابات التشريعية، وعادت الحالة الفلسطينية إلى المربع ذاته المشابه لحالها الآن، ولما كانت عليه منذ عام 2007.
أسباب التعثر المستمر في محاولات ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني باتت معروفة ومفهومة، وأي لقاء أو توجّه لإنجاز المصالحة الداخلية ينبغي أن يتأسس على قاعدة متينة من الوضوح ومن الجرأة، الوضوح في تحديد المطلوب وإدراك أولويات المرحلة، وما يحتاجه النهوض الوطني العام. والجرأة في تشخيص الخلل، وتحديد المسؤولين عنه، والمعطّلين لكل تفاهم سابق أو لاحق.
كلا الأمرين (الوضوح والجرأة) لم يحدث أن توفّرا في هذه اللقاءات أو ضمن هوامش الحديث عنها، وما تزال كل فكرة المصالحة أسيرة صياغات ضبابية مكرورة وأفكار لا تمسّ الجوهر، وتركز على النتيجة وليس السبب، وتتجاهل التحديات الأساسية التي يستحيل مع وجودها أن يتم الخلوص إلى رؤية وطنية شاملة أو قيادة موحدة للشعب الفلسطيني، أو خطة لمواجهة الاحتلال، كما تأمل فصائل المقاومة.
اقرأ أيضا: شعبٌ غير متفائل.. ولقاءات تنظيمية متكررة
بل يصعب فهم كيف يمكن الحديث عن هدف كبير بوزن (وضع خطة إستراتيجية لمواجهة ومقاومة الاحتلال) ولدينا طرف أساسي يشارك في هذه اللقاءات يقوم دوره ووجوده على ملاحقة المقاومة وإضعافها، وترتبط مصلحته الخاصة مع بقاء الساحة الفلسطينية ساكنة ومسالمة، ومع غياب المقاومة وإجهاض مشروعها ونزع سلاحها.
وهنا، يخطئ من يظن أن التحدي الوحيد الماثل أمام التوافق هو الاعتقالات السياسية التي تمارسها السلطة، الاعتقالات هي نتيجة وإفراز لسبب أو لعامل كبير هو التنسيق أو التعاون الأمني مع الاحتلال، وهو الثابت الوحيد في سياسات السلطة، وهي قد تضحي بكل شيء سواه، ذلك أنها في الوقت الذي ستتحول فيه إلى سلطة وطنية تشارك في حماية شعبها أو ترفع يد الملاحقة عن المقاومة بكل تفاصيلها، ستفقد الحماية الإسرائيلية وستحبس عنها أموال الضرائب التي يمسك كيان الاحتلال بمصادرها، وستفقد الدعم الخارجي، وهو ما يعني انهيارها، فأي برنامج وطني يمكن أن تكون هذه السلطة جزءا منه، فيما هي لا يمكن أن تستمر أو تتعايش في ظل انتعاش المقاومة؟
من جهة أخرى، ثمة تحدٍّ أمام التوافق يتمثل في نزعة الإقصاء والتفرد العالية لدى قيادة حركة فتح، وهي نزعة تاريخية باتت معها الحركة غير قادرة على استيعاب وجود قوى فلسطينية وازنة وكبيرة غيرها مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني ولخط برنامجه في التحرر والمقاومة، وللتخلص من تبعات برنامج السلطة وحركة فتح المفروض قسراً على قناعات الشارع الفلسطيني، لكن قيادة السلطة ما تزال تتمسك به وتحاول جعله من الثوابت التي لا تقبل المساس، وإرغام بقية الفصائل على التكيّف معه وخفض سقفها بما يتلاءم مع استحقاقاته الكارثية.
فصائل المقاومة من جهتها، وعلى رأسها حماس، قدمت على مدار السنوات العديد من مبادرات حسن النية العملية وذللت كثيراً من الصعاب أمام محاولات التوافق، لكن ذلك لم يحدث اختراقاً في تعنت قيادة حركة فتح، ولم يدفعها لتقديم مبادرات مماثلة، ولو بمستوى الكفّ عن الملاحقات السياسية في الضفة أو غضّ الطرف عن النشاط المقاوم فيها.
كل هذه التفاصيل تغيب عن البحث، وتتوارى خلف الأفكار العائمة والعبارات المطاطة والمواقف السياسية حمالة الأوجه، والنتيجة كما نرى دائما، جمود المسار الوطني، والسكون على حالة واحدة، واستمرار قيادة السلطة في عبثها ونهجها الخطير، مستغلةً كل تلك الضبابية، ومستفيدة من تقديمها دائماً ووضعها في صدارة المشهد الفلسطيني، في حين دورها يناقض كل رؤية وطنية، ويعطّل تقدّمها.