كثير من سلوكياتنا الاجتماعية طرأ عليها تغيُّر أو تبدُّل في إرادتنا أو في غيرها بسبب كورونا، حتى أصبحنا نعيش وفق شروطه.
تخطى هذا الفيروس كل النظريات والمفاهيم التي تفترض أن التغيير مثل الشفاء يستغرق وقتًا، لقد انتزعنا بشكل خاطف من سياقنا الاجتماعي، وأفرز فينا استجابات سلوكية قاسية بدأنا بقليل ملاحظة نعتادها.
نصحو على تقديم واجب العزاء لصديق أو قريب خطفه كورونا ثم نمسي على ذلك، ونحن نراقب عداد الفقْد في العاشرة صباحًا، الوقت الذي تصدر فيه وزارة الصحةنشرة عجزنا.
"أعظم الله أجركم" عبارة التقطتها خاصية الملء التلقائي للوحة هواتفنا الذكية، وأصبحت تتنبأ لنا بها على الدوام، وهو من أثر الذكاء الاصطناعي الذي تفوق علينا في القدرة على استيعاب الواقع المأساوي الذي نعيشه.
مأساة حقيقية نعيش تفاصيلها، وتبدلات موجعة يفترض أن تنعش الخوف في قلوب الباقين، وتفتح فينا سدودًا من الألم ونحن نعيش على وقع أكثر من 150 وفاة منذ نهاية شهر أغسطس الماضي، أي شهورًا قليلة فرضت علينا الجائحة أن نبيت في خيمة عزاء افتراضية، لا نغادرها ونحن نتبادل التعازي.. نودِّع إخوة ونستقبل آخرين.
لم يُعرف عنَّا كفلسطينيين أننا استسلمنا في يوم ما للخسارة، لكن يبدو أنه جاء اليوم الذي سنضطر أن نقبل بها كحقيقة في الحياة. هذه المحصلة لا يقف تأثيرها عند حدود الأمر الواقع، بل تتعداه في حالتنا الخاصة في قطاع غزة، لتمثل تحدِّيًا في مدى قدرتنا على المواجهة.
إنه الوقت الذي يجب ألا يكون لدينا فيه استعداد لمزيد من الخسارة، كي نستطيع القول إننا على استعداد فعلي للانتصار في معركتنا الرئيسة، مع ما تحمله هذه المعادلة من حقيقة أنه من دون ذلك فلن يكون هناك رابح، بمن فيهم المقاومة الفلسطينية.
وانطلاقًا من خطورة وكارثية النتائج المحتملة، فإننا نصل إلى قناعة بأن الجائحة في واقعنا بغزة هي أخطر من أن تُترك للأطباء وحدهم، بل ينبغي استشعار حجم المأساة والتحلِّي بالمسؤولية والشراكة الاجتماعية، وتحصين محيطنا بالصبر والمهارة التي نقضي فيها وقتنا في محاكمة الإجراءات الحكومية.
كيف هان علينا أن نتناقل بكل برود الأحكام الفقهية الخاصة بجائحة كورونا التي تشرح حقوق الموتى المصابين بالوباء، وحكم إقامة صلاة الغائب عليهم -على ضرورتها- قبل أن نهتم على الدوام بمعالجات الشريعة الإسلامية وأحكامها في مقصد حفظ النفس؟
ليست مشكلتنا مطلقًا في عدم امتلاك غالبيتنا للوعي الكافي بخطر الجائحة وحقيقتها، بل في أن هذا الوعي لا يُترجم في سلوكنا وممارستنا اليومية، لكننا انشغلنا عن ذلك في صيغ التعزية وألفاظها وتحصيل أجرها، رغم أن التعزية في مشروعيتها مشتملة على أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، نحن أحوج ما يكون أولًا إلى فهم ذلك والوعي به.
حاولنا في بدايات الأمر حين كان الخطر على حدودنا، أن نقدِّم نموذجًا فريدًا في الصدِّ وفعلنا، ثم كانت إرادة الله غالبة وحلَّت فوق إرادة الجميع، ودخلنا في معترك وبائي خطر لا يرحم، ومع ذلك يبقى بيدنا أن نختار بين أن نعيش حياة هانئة برفقة من نحبّهم أو نقتلهم باستهتارنا.