ليلى غنّام، المرأة الوحيدة التي تشغل منصب "محافظ" في السلطة الفلسطينية، لذلك يحظى ظهورها لدى الإعلام باهتمام وتداول عبر منصات التواصل لهذا السبب وأسباب أخرى.
لم يكن أبدًا "قلب الأم" واحدا من هذه الأسباب التي قادت غنّام محافظ رام الله والبيرة منذ يناير 2010، إلى استقبال ضباط الضابطة الجمركية، بعد مشهد إذلالهم من جنود الاحتلال قرب مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، وتكريمهم على ما قالت إنه "لاكتشافهم قوة إسرائيلية خاصة في الوقت المناسب، أفشل مهمتها في الاعتداء على أبناء شعبنا".
بينما قدمت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية رواية مختلفة قالت فيها إن قوة من الجيش الإسرائيلي كانت تقوم بنشاطات عملياتية قرب رام الله بالمنطقة (ج) عندما رصدت عناصر مسلحة من الشرطة الفلسطينية، مدّعية أن القواعد المتبعة تحظر وجود عناصر مسلحة من الشرطة الفلسطينية بالمنطقة.
اعتقل جيش الاحتلال عناصر الشرطة الفلسطينية وصادر أسلحتهم، قبل إطلاق سراحهم لاحقا، لكن بعد أن مارس علوّه وهوايته وقدّم لنا الصورة التي أُتيح لنا هذه المرّة أن نراها سويًا مع ليلى غنام.
بينما هي في حقيقة الأمر عادات إذلال تفيض بها شوارع الضفة، ومصير ذاقه كل منتسبي الأجهزة الأمنية الذين يخالفون التعليمات أو يرتكبون الأخطاء، أو من يفكرون بإظهار المرجلة التي تشتكي داء الشلل.
من أجل ذلك يُصدر قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعليمات دورية ودائمة لعناصر الأمن في الأجهزة المختلفة بعدم الاحتكاك مع قوات الاحتلال أو الدخول في مواجهات معها، وهو ما يدفع عسكريًا إسرائيليًا مستجدًا لممارسة طقوس الإهانة التي لا تمسّ أفراد الأمن بقدر ما تهدم رمزية السلطة.
تحرّكت ليلى غنام، بدافع كونها مرشدة نفسية، لترميم صورة رجل الأمن الفلسطيني وردّ اعتبار له، أكثر من كونه تكريما على بطولة. لكن ذلك لن يمحو صورة العسكري المُهان في مخيّلة أصغر طفل فلسطيني. رجل الأمن الذي جُرّد من ثيابه في يوم غابر، ويجرّد اليوم من سلاحه.
إنها خيبة جديدة تنهمر علينا سيدة ليلى، وغالبًا فإنكِ أعلنت استسلامك للخسارة، للإهانة، أعلنت قبول ذلك كحقيقة في يومكم. وما بادرْتِ إليه ليس ذا جدوى في واقع أصبحت فيه الإهانات لأفراد الأمن الفلسطيني بالضفة، أمرًا مستساغًا.
هل كان من مهام رجال الضابط الجمركية كشف القوة الخاصة في وقت تعمل فيه أجهزة أخرى على تسهيل مرورها عبر مدخل آخر؟ أم أن الحادثة وقعت على غير انتظار؟
وفي كُلٍ، فإن رجل الأمن الفلسطيني سيظل ضحية العلاقات الفوقية المحرّمة، ومزاجية جندي إسرائيلي من أصول مهاجرة، وهي علاقة تشبه قصة الذئب الذي وقف يوماً ليشرب من النهر، فإذ بحمل صغير يشرب بجانبه، فقال له الذئب: "لماذا تعكر عليّ الماء؟" فردّ عليه الحمل: "وكيف لي أن أعكر عليك الماء وأنت تقف في أعلى مجرى النهر، والماء يأتيني من جهتك".
حدّق الذئب قليلاً في الماء، ثم التفت غاضباً للحمل وقال: "ولماذا أهنتني قبل ستة أشهر؟"، فقال الحمل: "لم أولد حينها"، فردّ الذئب: "إذاً فقد كان والدك الذي أهانني، والله لتدفعن ثمن تلك الفعلة"، فوثب على الحمل والتهمه.
لم يكن بيد الحمل أن يفعل أكثر من ذلك، فتغلّب منطق القوة على الضعف، ولم تنفع الأعذار ومحاولة الحديث بعقلانية، وفي المحصلة لن يتوقف الذئب عن اختلاق الحجج لاستخدام القوّة المفرطة والقتل، وهذا حال الاحتلال مع الأمن الفلسطيني.
وكل الفضل في ذلك يعود إلى السلطة الفلسطينية التي عملت منذ عام 2008 على تغيير عقيدة رجل الأمن الفلسطيني ضمن مشروع خطة الجنرال الأمريكي "دايتون"، بحيث أصبح الفلسطيني شجاعًا على الفلسطيني، بينما تلاشت عقيدة "أبو جندل".
اسمه "يوسف ريحان" أحد أبطال معركة جنين 2002، وقائد بجهاز الأمن الوطني، الذي منع دورية إسرائيلية من اعتقال أطفال عند مدخل بيت لحم الشمالي، وهدد ضابطها بعد جدالٍ حاد: "إذا طلعت طلقة واحدة منكم فسأرد بـ100 طلقة".
أعدمه الجيش الإسرائيلي رميًا بالرصاص في 13 أبريل 2002؛ لأنه ثائر كريم رفض خلع زيّه العسكري والتنكر بثيابٍ أخرى. لكن التنسيق الأمني جعل أمثال "أبو جندل" سلعة نادرة، وأنتج لنا باقتدار أمنًا يشرف على تعقيم آلية عسكرية إسرائيلية قبل اقتحام بيته.
نجحت (إسرائيل) في إعدام أبي جندل وأمثاله، وواصلت منظومة "دايتون" مهمة محو أي أثر لهم في العقيدة الأمنية الفلسطينية، لكننا كشعب لن ننسى أن رجال الأمن الفدائيين مرّوا يومًا من هنا.