لقد انكفأت الدولة التركية الحديثة منذ تأسيسها على نفسها وانقطع التواصل ما بين قواها السياسية والفكرية وبين العالم العربي والإسلامي بشكل شبه كامل وحاول النظام الأتاتوركي جاهداً الابتعاد عن الإرث التاريخي للدولة العثمانية حتى في العلاقات مع دول المنطقة.
ومع التقارب التركي الأمريكي في بداية الأربعينيات ثم مشاركة تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وأخيرا وبعد إعلان مبدأ الرئيس الأمريكي ترومان (1945-1953) عام 1947- وهو المبدأ الذي دعمت من خلاله الولايات المتحدة تركيا واليونان في مواجهة المد الشيوعي في حينه – انتقلت تركيا بشكل كامل لتكون جزءا من المحور الغربي الذي تقوده أمريكا وقد جاء الاعتراف بالكيان الصهيوني كنتيجة حتمية لهذا الواقع خاصة وأن الأطراف العربية المعنية بالقضية الفلسطينية كانت ضمن المحور الذي كانت تعتبره تركيا الكمالية (الأتاتوركية) محور الأعداء وكذلك تراكم المواقف العدائية بين العرب والأتراك نتيجة النزعات القومية لدى الطرفين من أواخر الحكم العثماني.
وفي عهد مندريس - ذو التوجه الليبرالي المحافظ والمنافس الأهم للتيار الكمالي الذي خرج من عباءته - تطورت العلاقة بعقد اتفاقيات تحالف مع الاحتلال كنوع من التقرب من المحور الغربي من ناحية و كرد على تطور العلاقات العربية خاصة في مصر وسوريا والعراق مع المحور الروسي الذي كانت تعتبر تركيا نفسها رأس الحربة في مواجهة توسعه فيها ونحو أوروبا وكان اتفاق التحالف في عام 1958 تحالفاً سريا غير معلن رغم تبادل الزيارات بين البلدين على مستويات مختلفة سياسية وعسكرية وأمنية وفي هذه المرحلة بدأ تبلور مواقف لدى التيارات الشعبية التركية تجاه الاحتلال الاسرائيلي والقضية الفلسطينية وكان للأحداث العالمية والإقليمية دور مهم في مواقف الأطراف المختلفة.
وقبل الخوض في تفاصيل الأحزاب والتيارات والتباينات وأوجه الشبه في مواقفها من القضية الفلسطينية يجب أن يكون واضحا أن كل الأحزاب السياسية التركية الكبرى ترى في مبادئها ومنشوراتها أن حل الدولتين ضمن المنظومة الدولية هو الحل الأمثل للقضية الفلسطينية ولن تجد حتى في الأحزاب المحافظة من يطالب بزوال إسرائيل ويعتبر وجودها غير شرعي وقد يكون التبرير الأساسي للموقف هو ما يسمى بالنظرة الواقعية للمشكلة.
وسأطرح الموضوع في مقالين الأول يطرح التيارات الكمالية والعلمانية والليبرالية والثاني سيطرح وجهة نظر الأحزاب اليمينية والمحافظة وقد فصلت في التوجهات والمرجعيات الفكرية للأحزاب التركية في مقالي السابق بعنوان " الأحزاب والتيارات السياسية التركية ومرجعياتها".
أولاً : الأحزاب الكمالية "نسبة لكمال أتاتورك" أو التيار الأتاتوركي ويقوده حزب الشعب الجمهوري وهو مؤسس العلاقة وحاميها حتى بعد خروجه من الحكم سياسياً في الخمسينيات إلا أن تياره الفكري كان المسيطر على الدولة عبر العسكر الذين كانوا الآمر الناهي في الدولة حتى وقت قريب وقد كان موقف الحزب حتى فترة قريبة متطرفا في العداء للقضية الفلسطينية ويبني مواقفه على أسس عرقية وفكرية ويعتبر الاحتلال هو الحليف الأهم لتركيا في المنطقة ويرفض أي نوع من التقارب مع القضية الفلسطينية وقد استمر هذا الأمر منذ تأسيس الحزب على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى بداية الستينيات ولكن ومع صعود التيار اليساري في تركيا وحدوث التداخل في التيار مع التيار اليساري الاشتراكي بدأت تظهر بوادر انقسام في الموقف داخل الحزب بين الكماليين العرقيين واليساريين في الحزب وقد ترافق هذا مع قيادة التيار الليبرالي المحافظ بقيادة مندريس للتقارب وفي تلك الحقبة زاد تأثير التيار اليساري الديمقراطي داخل الحزب فكان هو والرغبة في معارضة سياسات مندريس دوافع لتأييد الحزب الحقوق الفلسطينية إلا أن الأغلبية عادت مرة أخرى في أول التسعينيات حين أعيد فتح الحزب بعد إغلاقه على يد الحكومة العسكرية التي نفذت الانقلاب الأشهر عام 1982 فعاد الحزب ليدور في فلك الحلف مع الاحتلال واستمر هذا الأمر حتى الماضي القريب حيث إنه في التسعينيات وبعد الانقلاب على أربكان قاد العسكر- الذين انقبلوا بحجة حماية مبادئ العلمانية والأتاتوركية في الدولة - حملة كبيرة من التقارب مع الكيان وشكلت ذروة العلاقة والتحالف بينهما حيث الاتفاقيات العسكرية والأمنية التي جعلت تركيا حديقة خلفية لدولة الاحتلال فيها تدرب قواتها وطائراتها ومعها تتعاون في الملفات الإقليمية في مواجهة المخاطر التي تهددها وحتى أن المطلوبين للاحتلال كانوا يسلمون عبر الأمن التركي مباشرة للاحتلال كما حدث مع العديد من الطلبة الفلسطينيين عام 1998 وينبع هذا الموقف من نظرة التيار الكمالي لموقع تركيا في العالم فالحزب يؤمن أن تركيا لا تنتمي للعالم الشرقي والإسلامي بل يراها جزء من الغرب ثقافة وأخلاقا ويعتبر الاهتمام الزائد لتركيا بقضايا الشرق الأوسط هو نكوص عن أهداف الجمهورية التي وضعها كمال أتاتورك والتي تعتبر التغريب والحداثة أحد أهم التغيرات التي صنعتها تركيا بعد اسقاط الخلافة.
ورغم التغير في الخطاب والتوجه السياسي لحزب الشعب الجمهوري في السنوات الأخيرة فلا يفسر إلا بأنه محاولة للتقرب من المجتمع التركي المحافظ كما في كل القضايا التي تمس المحافظين في تركيا ورغم بعض المواقف المعادية للاحتلال نتيجة لأحداث جسام إلا أن فكر الحزب ما زال يرى فلسطين قضية هامشية في علاقات تركيا ويسعى لجعل مصالح تركيا مع الاحتلال هي المعيار الأوحد في العلاقة بل وعارض في عدة مرات المواقف المتقدمة من الحكومة تجاه القضية الفلسطينية وكان آخرها مساءلة قدمها كبير مستشاري الحزب أحمد تشافيك أوز لرئيس الجمهورية حول مقابلته مع طاقم رئاسي مع وفد من حركة حماس وحول اتهامات من الاحتلال لاستخدام بعض عناصر حماس لتركيا كمقر للعمل العسكري ضد الاحتلال.
ثانيا: الأحزاب اليسارية وهذه الأحزاب رغم تراجع زخمها في الساحة السياسية التركية إلا أن التيار اليساري ولأسباب فكرية وعلاقته بالمحور الشيوعي كان من أوائل من اهتم وساند القضية الفلسطينية في تركيا منذ الستينيات من القرن الماضي حتى وصل بمجموعات صغيرة من عناصر أحزاب اليسار الثوري أن خرجت إلى سوريا ولبنان وشاركت مع الفصائل الفلسطينية اليسارية وفتح في العمل العسكري ومن أشهرهم مجموعة دنيز غيزمش Deniz Gezmiş ورفاقه الذين أعدموا بقرار محاكمة عسكرية والتي رفض أجاويد وعصمت إنونو إعدامهم حينها في مؤشر لتأثير التيار اليساري على حزب الشعب الجمهوري.
كانت قضية فلسطين بالنسبة ليسار تركيا حتى بداية الثمانينات القضية المركزية ومن أجلها خرجت المظاهرات وكتبت الروايات والأشعار فارتبطت القضية باليسار في تركيا حتى أن بعض التيارات اليمينية تبنت مواقف معادية أو غير مؤيدة للقضية الفلسطينية كنوع من ردة الفعل على هذه المواقف.
بعد صعود التأييد للقضية الفلسطينية في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات و بداية ظهور التيارات الإسلامية في فلسطين بدأ التأييد اليساري يتخذ الطابع الانتقائي في تأييد اليسار الفلسطيني أو فتح أحيانا ومعارضة أو عدم التأييد في بعض القضايا لارتباطها بالتيارات الإسلامية في فلسطين أو تبنيها من التيارات الإسلامية في تركيا كما حدث في قضايا كثيرة من أشهرها ملف سفينة مرمرة والحروب المتتالية على غزة.
وينقسم اليسار في مواقفه من حل القضية الفلسطينية بين من يتبنى رؤية حل الدولة الواحدة لشعبين ويغلب هذا الفكر على التيار الشيوعي الراديكالي الثوري وبين مجموعات اليسار الاشتراكي التي تتماهى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في موقفها من حل الدولتين على أسس القرارات الأممية.
ورغم الزخم الكبير للقضية الفلسطينية في التيار اليساري التركي من الستينيات إلا أن الإهتمام أصبح هامشيا نتيجة للانقسامات الكبيرة والتراجع الكبير لهذه الأحزاب من ناحية وبسبب صعود نجم التيارات الإسلامية في المقاومة الفلسطينية من ناحية ولازدياد تبني الحركات الإسلامية الأيدلوجية التركية للقضية وازدياد حجم دعمها واسنادها لها.
التيار الليبرالي وهو منقسم بين اليمين واليسار فقد اتسم بثبات موقفه من القضية الفلسطينية في كلا الناحيتين ومرتكز رؤيته أن قضية فلسطين قضية إنسانية وأن الشعب الفلسطيني يعاني ويجب حل القضية على أسس الشرعية الدولية أو ما يتوافق عليه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي ولكن هذا الطرف لا يرى قضية فلسطين قضية مقدمة على المصالح التركية التكتيكية والاستراتيجية بل إن التيار الليبرالي في الأحزاب اليمينية وعلى رأسها العدالة والتنمية يعتبر أن مواقف تركيا في عهد العدالة والتنمية المتقدمة تجاه القضية الفلسطينية هي مخاطرة وشعبوية يجب أن تتوقف وأن تقدم تركيا ما يتطلب منها كأي دولة في المجتمع الدولي وألا ترهن مصالحها وعلاقاتها للتيار الأيدلوجي في الشارع التركي وأن هذا الشارع مع فلسطين عاطفيا فقط .
ومن هنا فإن التيار الكمالي والليبرالي في تركيا يلتقيان في رؤيتهما للحل رغم اختلافهما في النظرة للشعب الفلسطيني والقضية بشكل عام فقضية فلسطين ليست قضية تركيا المركزية ولا من القضايا المحورية بالنسبة لها وأن الحل هو فقط لدى المجتمع الدولي وليس على تركيا سوى دعم العمل الدولي في هذا الشأن دون التدخل في معترك القضية إلا أن التيار اليساري والذي انكمش على نفسه في تركيا لديه مواقف مؤيدة وداعمة للقضية الفلسطينية ولكنها مرتهنة لمواقف اليسار الفلسطيني أكثر من كونها ايديولوجيا لدى هذه الأحزاب وهي قابلة للتغير لو تم العمل معها بشكل أكثر فاعلية.