لم تكن ليلة الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2023 ليلة عادية في حيٍّ قرب مسجد فلسطين بمدينة غزة؛ ففي تلك الساعات المظلمة، كانت أصوات الانفجارات ورائحة الدخان تملأ المكان، في حين عاش السكان تحت حصار خانق فُرض لأيام.
في تلك الليلة تحديدًا، خسرت عائلة الطبيب رائد مهدي (52 عامًا)، المدير الطبي لمستشفى الشهيد محمد الدرة للأطفال، الذي كرّس حياته لعلاج الصغار وإنقاذ أرواحهم، حين اقتحمت قوات الاحتلال منزلهم واعتقلته دون تهمة أو مسوغ.
"أخذوه أمام أعيننا"
تروي زوجته سهام الخطيب تلك الساعات بارتباك يكشف حجم الألم الذي ما زال يرافقها منذ ذلك اليوم.
وتقول الخطيب لصحيفة "فلسطين": "كان المكان محاصرًا منذ أسبوع كامل، لم نكن نعرف ما الذي سيحدث، أصوات إطلاق النار لم تتوقف، والسماء مضاءة بالانفجارات، ثم عبر مكبرات الصوت بدأ الجنود يأمرون الناس بالخروج من المنازل والتوجه نحوهم".
وتضيف أن العائلة كانت ترتجف خوفًا، وأن أبناءها الخمسة (ثلاث بنات وولدان) كانوا يبكون من الرعب، متابعة: "ما إن فتحنا باب المنزل حتى رأينا الجنود أمامنا مباشرة، اقتحموا المنزل كأنهم يعرفون وجهتهم بدقة، أمسكوا بزوجي واقتادوه بسرعة نحو إحدى المركبات العسكرية. حاولت أن أفهم، أن أسأل، لكن أحدًا لم يجبني، فقط صراخ وضرب بأعقاب البنادق، وأوامر بالنزوح شرق المدينة".
وتستذكر المشهد قائلة إن جنود الاحتلال حاولوا اعتقال ابنها البكر البراء (14 عامًا) مع والده، لكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة بعد أن أخبرتهم أنه طفل صغير لا يعرف شيئًا.
تتوقف قليلًا، تمسح دموعها، ثم تقول: "ذهب زوجي ولم يعد، وبقينا نحن في المجهول".

سبعة أشهر من البحث
منذ لحظة الاعتقال، بدأت سهام رحلة طويلة بين المؤسسات الحقوقية المعنية بشؤون الأسرى، داخل غزة وخارجها. كانت تتصل يوميًا تقريبًا، تبحث عن بصيص أمل، عن أي معلومة تُطفئ وجع الانتظار.
وبعد سبعة أشهر، وفق قولها، وصل إليها أول خبر رسمي من مؤسسة تُعنى بشؤون الأسرى في رام الله، يفيد بأن زوجها محتجز في سجن "النقب"، ويعاني فقدانا كبيرا في الوزن وتدهورا نفسيا واضحا.
وتكمل سهام: "عندما سمعت أنه حيّ، بكيت. لم تكن دموع راحة كاملة، لكنها كانت أقل مرارة من المجهول. لكن عندما أبلغوني أنه فقد وزنه وأن حالته النفسية ساءت، شعرت بطعنة؛ رائد ليس من الرجال الذين يهزمون بسهولة، لكن السجون قاسية، السجون تقتل روح الإنسان".
أكثر ما يحير سهام: لماذا يعتقل الاحتلال طبيبًا كرّس حياته لعلاج الأطفال؟ ولماذا لا يُفرج عنه حتى بعد انتهاء الحرب؟
وتسأل بمرارة: "زوجي ليس مقاتلًا، ليس له أي علاقة بأي عمل عسكري. رائد أمضى عمره في غرف الإنعاش وبين أسرّة الأطفال المرضى… هل أصبح علاج الأطفال جريمة؟ أين دور نقابات الأطباء؟ أين المؤسسات الطبية والإنسانية في العالم؟".
وتضيف: "حتى المؤسسات التي تواصلت معها في الضفة الغربية أكدت لي أن زوجي لم تُوجَّه له أي تهمة، ولا توجد محاكمة ولا ملف قانوني، مجرد اعتقال تعسفي ثم إخفاء".
حرب لم تنتهِ
بالنسبة لسهام، انتهت الحرب على الورق، لكن فصولها ما زالت تتكرر يوميًا داخل بيتها.
تقول: "الحرب لم تنتهِ في منزلنا. طالما زوجي غائب وطالما لا نعرف مصيره، فالخوف يعيش معنا. كل ليلة ننام على سؤال واحد: هل يعود؟".
وتضيف أن أبناءها الخمسة يعيشون صراعًا نفسيًا مضاعفًا؛ فالابن الأصغر يسألها كل يوم: "متى يعود أبي؟"، بينما تحتفظ ابنتها الوسطى برسومات كانت ترسمها لوالدها أيام عمله في المستشفى، وتعلّقها على الجدار لتشعر أنه موجود معهم.
وتتابع: "هم أطفال أيضًا، لكن لا أحد يسأل عنهم. زوجي كان يعالج الأطفال، بينما من يُفترض بهم حماية الأطفال اعتقلوه".

وتشير سهام إلى أن الوسطاء الذين أبرموا اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في 13 أكتوبر 2025 لم يتناولوا بجدية ملف الأسرى، قائلة: "لماذا لم يتضمن الاتفاق بندًا واضحًا بالإفراج عن المعتقلين؟ ولماذا لا أحد يتحدث عن المئات الذين اعتُقلوا دون أي تهمة؟".
وتتابع بمرارة: "العالم كله وقف مع الجلاد ولم يلتفت إلى الضحايا. لو تحرك المجتمع الدولي بجدية، لما بقي زوجي دقيقة واحدة خلف القضبان".
استهداف ممنهج
يُذكر أن قوات الاحتلال تعمّدت خلال الحرب استهداف الطواقم الطبية والمسعفين والمستشفيات، واعتقلت عددًا كبيرًا من الأطباء دون أي ذريعة.
وكان الطبيب رائد واحدًا من الذين وجدوا أنفسهم خلف القضبان لمجرد أنهم أدّوا واجبهم المهني والإنساني.
وتقول الخطيب: "الأطباء ليسوا طرفًا في الحرب، هم ضمير الإنسانية. اعتقالهم يعني إسكات صوت الرحمة. زوجي كان يعود إلى البيت كل ليلة منهكًا لكنه سعيد لأنه أنقذ طفلًا جديدًا، أما الآن فهو خلف جدران لا نعرف ما يحدث داخلها".
قبل أن تختم سهام حديثها، تطلق نداءً يختزل وجع الغياب: "أريد أن يعود زوجي، هذا كل ما نريد. نريد أن يعيش الأسرى بكرامة، وأن يحصلوا على الغذاء والعلاج، وأن يُفرج عنهم. أطالب بالإفراج عن الأطباء جميعًا، فوجودهم في السجون وصمة عار على جبين الإنسانية".
وتختم بالقول: "رائد ليس مجرد أسير، إنه أب وطبيب وإنسان، وكل يوم يقضيه في السجن هو ظلم مضاعف لأطفاله وللمرضى الذين يحتاجون إليه".

