تعليقًا على الحكم الصادر عن محكمة العدل الأوروبية أمس الثلاثاء ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٩ القاضي بإلزامية وسم منتجات المستوطنات في الأراضي المحتلة سنة ١٩٦٧ من المواد الغذائية بما يُظهِر حقيقة منشئها:
- خسر لوبي الاحتلال القضية (التي تحمل رقم C-363/18) التي رفعها في محكمة العدل الأوروبية في هيئة طعن من خلال منظمة "يهود أوروبيون" وشركة "كروم بسغوت" (بسغوت مستوطنة أقامها الاحتلال قرب رام الله سنة ١٩٨١ وتنتج ربع مليون قنينة نبيذ فاخر سنويًّا يُصدَّر معظمها إلى الخارج خاصة أوروبا)، والتي جاءت بعد قرار أصدرته وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية يقضي بتمييز منتجات المستوطنات من المواد الغذائية بشكل يوضح منشأها بموجب الأنظمة التي سنَّها الاتحاد الأوروبي سنة ٢٠١١ بشأن المنشأ التجاري. رفضت المحكمة بانعقادها الموسّع الاستجابة لحجج الطعن الذي رفعه لوبي الاحتلال وحكمت بقانونية الإلزام بوضع علامات توضح المنشأ بصفة جلية.
- مما يكشف عن مدى هذه الهزيمة القضائية أنَّ حكومة الاحتلال قامت في الأسابيع الأخيرة -حسب تقارير- بحملة ضغوط على دول الاتحاد الأوروبي حذَّرت فيها من عواقب قرار قضائي كهذا، وجاء أنَّ مسؤولي الاحتلال طلبوا من الإدارة الأمريكية التدخل للضغط على المسؤولين الأوروبيين في هذا الشأن، وأنَّ أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي وجهوا رسائل للجانب الأوروبي تتضمن تحذيرات من إمكانية إضرار خطوات في هذا الاتجاه بالشراكة التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
- ينسجم الحكم الجديد مع ما أوصى به المحامي العام جيرارد هوجان كبير مستشاري محكمة العدل الأوروبية في ١٣ يونيو/ حزيران الماضي في تقريره المقدّم إلى المحكمة، وهو ما جعل القرار متوقعًا سلفًا إلى حدّ ما. كما يُشار إلى ما قرره الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه قبل أربع سنوات (نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٥) في قرار أصدرته المفوضية الأوروبية.
- القرار القضائي الآن هو بمنزلة توصية للمحاكم الأوروبية بأن تعمل بمقتضاه في قضايا مماثلة، بدءًا من القضاء الفرنسي موضوع القضية. ويُحتمل أن يأخذ الامتثال لذلك في عموم الدول الأعضاء مدى زمنيًا واستجابات متفاوتة دون أن تنقطع ضغوط الاحتلال لعرقلة الامتثال لمقتضاه.
- ما يخشاه الاحتلال بالتالي أنّ هذا الحكم يفتح الباب على مصراعيه لدعاوى يرفعها الجمهور في الدول الأوروبية لدى محاكمهم الوطنية للامتثال لمقتضاه في أسواق الدول الأعضاء، وأن تُلهِم هذه السابقة القضائية الدولية دولًا أخرى خارج القارة بأن تحذو حذوها.
- يضغط حكم محكمة العدل الأوروبية على تجارة الاحتلال من المواد الغذائية مع أوروبا بما يقضي به من إلزام بالكشف عن حقيقة منشئها بعلامات ظاهرة ومنع صيغ التحايل على الجمهور لطمس ذلك، وقد قطعت المحكمة بقرارها هذا الطريق على محاولات التورية وطمس المنشأ التي تلجأ إليها شركات الاحتلال عمومًا ومنتجات المستوطنات خصوصًا، وحسمت مفهوم "بلد المنشأ/ مكان الورود" بصفة تمنع اعتبارها "منتجة في إسرائيل"، تأسيسًا على الصفة الاحتلالية القائمة.
- للقرار بُعد سياسي مهم، لأنه ينطلق من أساس رفض الاعتراف بشرعية هيمنة الاحتلال على الأراضي المحتلة سنة ١٩٦٧، وتزداد أهمية ذلك مع محاولة الاحتلال -خاصة في عهد دونالد ترامب- شرعنة سيطرته بإجراءات الضم وفرض الأمر الواقع بالقوّة، بما في ذلك شرق القدس والأغوار وما يسمى المنطقة "ج" عمومًا في الضفة الغربية والجولان.
- تخشى قطاعات الاحتلال الاقتصادية من عواقب تمييز منتجات المستوطنات من المواد الغذائية على فرص هذه المستعمرات غير القانونية في الانتعاش والتوسّع وما يتطلبه ذلك من نشاطات اقتصادية وإنتاجية وتجارية جاذبة للمستوطنين. كما أنّ توسيم منتجات المستوطنات قد يتسبّب في تباطؤ إقبال المستوردين الأوروبيين عليها.
- سيشجِّع الحكم القضائي الأوروبي الجديد استهداف منتجات المستوطنات في المجتمع المدني الأوروبي، خاصة من جانب حملات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات "منع" أو BDS رغم الضغوط المتزايدة التي تواجهها في أوروبا تحت تأثير حملات الاحتلال الدعائية والسياسية.
- رغم أهمية هذا القرار فإنَّ مجرد وسم منتجات الاحتلال في الأراضي المحتلة سنة ١٩٦٧ بصفة تميِّزها عن منتجات الاحتلال الإسرائيلي عمومًا ليس كافيًا، فهي ستظلّ حاضرة ومتداولة في الأسواق الأوروبية وإن وقع التضييق عليها نسبيًا. كما أنّ فرض هذا التوسيم على المواد الغذائية تحديدًا من شأنه أن يُعفي منتجات أخرى منه، ومنها على سبيل المثال مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة التي تقوم على نهب المواد الطبيعية الفلسطينية (بما في ذلك من البحر الميت) وهي قطاع متعاظم ضمن اقتصاد الاستيطان ويدير تبادلات نشطة مع أوروبا.
- يجدر ممارسة ضغط على الهيئات الأوروبية المعنية كي تعمم الإجراءات على عموم منتجات الاحتلال في المستوطنات وأن تؤكد عدم شرعية هذه المستوطنات بوضوح يقضي بحظر الاتجار والتبادل والتعاون معها، فالاتجار مع كيانات غير قانونية لا يمكن تسويغه ولا يصحّ الاستمرار به. وقد أكد حكم محكمة العدل الأوروبية الصادر أمس الثلاثاء ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني أنّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة سنة ١٩٦٧ وما ترتّب عليه من الاستيطان مخالف للقانون الدولي. ما هي أولويات التحرك بعد الحكم؟
- ينبغي استثمار الحكم القضائي الأوروبي في حملات متعددة المستويات للضغط على مصالح الاحتلال ونشاطاته الاقتصادية والتجارية. ومن الأولويات التي ينبغي أن تحظى بالعناية في حملات الضغط الرسمية والمدنية والجماهيرية وجهود المؤسسات والمراكز المتخصصة وصحافة التحقيقات على سبيل المثال:
١- تطوير سريان الإجراءات على عموم منتجات المستوطنات وليس المواد الغذائية وحدها.
٢- فضح المسالك الالتفافية التي تلجأ إليها المستوطنات لطمس المنشأ عبر تبييض منتجاتها بواسطة شركات أخرى وبالاستفادة من الترابط بين شركات الاحتلال على جانبي "الخط الأخضر".
٣- التركيز على مصارف الاحتلال (البنوك الإسرائيلية) التي تستثمر في المستوطنات وتوفِّر قروضًا وتسهيلات للمستوطنين ونشاطاتهم الاقتصادية، والضغط على النشاطات المصرفية لهذه المنشآت في أوروبا.
٤- تصعيد الضغوط باتجاه المطالبة بحظر أوروبي شامل للاتجار مع المستوطنات تأسيسًا على عدم مشروعيتها.
٥- الضغط على وجوه الاستثمار والتعاون التي تقوم بها أطراف وكيانات أوروبية مع المستوطنات، بما في ذلك الاستثمار في البنى التحتية وفي نهب الموارد الطبيعية الفلسطينية مثل المحاجر والمعادن والأملاح الطبيعية وغيرها.
٦- الاستفادة من الخيارات المتاحة للجمهور في رفع قضايا تمثِّل المستهلكين في أوروبا، في البلدان المتعددة، للضغط على سلع الاحتلال ومنتجاته، خاصة القادمة من المستوطنات مع تطوير ما يلزم من المسوغات القانونية، وتلازُم هذه القضية مع حملات ضغط في المجتمع المدني وتوعية إعلامية للجمهور.
ويُشار في هذا الصدد إلى أنّ مرتكزات حكم محكمة العدل الأوروبية الصادر الثلاثاء ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٩ تشتمل على أرضية جيدة في هذا الشأن بما في ذلك الإشارة إلى حق الجمهور في معرفة المنشأ لأسباب أخلاقية أيضًا.