انعقد مؤتمر فلسطينيي أوروبا العشرون في مدينة مالمو السويدية، يوم السبت (27 أيار/ مايو 2023)، واحتشد فيه زهاء عشرين ألفاً من الفلسطينيين والفلسطينيات تحت راية فلسطينية جامعة وخطاب وطني وحدوي. التأم الحدث الضخم بنجاح كبير لم تخطئه العين، وبدا واضحاً أنّ الحملة الضارية التي أطلقتها قيادة السلطة الفلسطينية ضد المؤتمر كانت مغرقة في العبث والتهوّر، وقد أسدت للمؤتمر خدمة سخيّة بزيادة الإقبال الشعبي عليه.
كانت الساحة الفلسطينية خلال الشهور التي سبقت انعقاد المؤتمر تموج بتطوّرات المواجهة مع الاحتلال وتحدِّي سطوته المتعاظمة؛ لكنّ قيادة السلطة التي ترفع العلم الفلسطيني بدت منشغلة بمعارك قصيرة النظر. أطلقت هذه القيادة حملة ضارية ضد جهود شعبها في الخارج، طاردت فيها فلسطينيي أوروبا تحديداً، استباقاً لمؤتمرهم الضخم الذي يعقدونه للعام العشرين على التوالي لإعلان التمسّك بحقوق شعبهم ومطالبه العادلة.
كشفت هذه الحملة النقاب عن هواجس تتملّك قيادة السلطة، وأظهرت سذاجة أولويّاتها الراهنة رغم تسارع المتغيِّرات من حولها؛ بين سياسات حكومة الاستيطان الفاشية من جانب، وتصاعد مظاهر التحدِّي الفلسطيني للاحتلال على الأرض من جانب آخر.
يجوز الافتراض بأنّ قيادة السلطة كان بوسعها "التعامل" مع مؤتمر فلسطينيي أوروبا أو أي تظاهرة شعبية أخرى بطريقتها الخاصّة المباشرة؛ لو أنّ الانعقاد الجماهيري جرى ضمن نطاق الصلاحيات التي يمنحها إيّاها الاحتلال في الضفة الغربية. فثمّة ما يكفي من البنادق والهراوات وأدوات التفريق والترهيب والاستدعاء في أيدي أجهزتها الأمنية؛ التي تمارس سطوتها على الشعب الواقع تحت الاحتلال بمقتضى اتفاقية أوسلو. النتيجة أنّ السلطة خنقت الحيِّز العام الفلسطيني في مناطق نفوذها، علاوة على سياسات المطاردة التي يقوم بها الاحتلال للشعب وفعالياته وناشطيه. أمّا عندما يتعلّق الأمر بنشاطات مستقلّة عن نهج السلطة يباشرها فلسطينيو الخارج؛ فإنّ هذه القيادة صارت تلجأ إلى تفعيل سلاح التشويه والتحريض بلا هوادة، وهي تحسب واهمة أنه يجدي نفعاً.
من شأن حملات التشويه والتحريض أن توقع أصحابها في مآزق مركّبة، فهي تُسدي خدمات ترويجية لا تُقدّر بثمن لنشاطات شعبية كبرى، علاوة على أنها حملات كاشفة عن مدى انزعاج هذه القيادة من أي فرصة لاجتماع أوساط من شعبها خارج وصايتها. ومن شأن هذه الحملات أن تستثير تساؤلات عكسية شائكة لدى الجمهور؛ إنْ حاول فهم دواعي الهجوم الضاري من قيادات السلطة ومنصّاتها الدعائية ضد حدث شعبي فلسطيني دوري يُقام في أوروبا، وظلّت تطارده دعاية الاحتلال بلا هوادة أساساً بسهام التحريض.
يمتلك مفهوم التحجّر القيادي قدرة تفسيرية سابغة إزاء منحى الاستنفار المفاجئ الذي باشرته قيادة السلطة الفلسطينية، التي هي قيادة منظمة التحرير أيضاً، والتي تحتكر قيادة حركة "فتح" على غير رغبة من كثير من أوساطها وقواعدها ومناضليها وأسراها وجماهيرها في الداخل والخارج.
للتحجّر القيادي شواهده الواضحة، فحكومة السلطة التي يرأسها محمد اشتيّة، الذي ألقى بنفسه خطاباً تحريضياً استباقياً ضد مؤتمر فلسطينيي أوروبا العشرين، هي كما سابقاتها ليست حكومة مُنتخَبة أساساً، إذ عيّنها رئيس السلطة الذي يتحاشى إجراء انتخابات عامّة. أمّا رئيس السلطة ذاته، فيتمسّك بإبعاد شبح الانتخابات الرئاسية عنه، ويشغل موقع الرئاسة رغم انتهاء ولايته دستورياً مطلع سنة 2009، وكان من المفترض حسب النظام الدستوري أن تؤول رئاسة السلطة وقتها إلى رئيس المجلس التشريعي، لكنّ هذا الإلزام الدستوري أُحبِط ببساطة.
أمّا منظمة التحرير التي يكثر الاحتجاج بها وبدورها في مرافعات التحريض الموجّهة ضد جهود الشعب في الخارج؛ فتبدو أشبه بمستودع ذكريات يُلهِم القوم بإطلاق خطابات المُزايدة المألوفة باسمها مع الحرص على خنقها. كان من المُفترض بالمنظمة أن تُستدعَى من مرقدها في هذا الظرف التاريخي الحرج الذي آل إليه مشروع سلطة الحكم الذاتي؛ لتستعيد حيويّتها إطاراً وطنياً جامعاً للشعب الفلسطيني في كل مكان، وكي ينهض مجلسها الوطني بدور برلمان الشعب وقواه؛ لكنّ أجيال الفلسطينيين المتعاقبة لم تُستدعَ إلى أي عملية انتخابية في إطار منظمة تحتفي بمقولة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". لم يمنع ذلك أن يكون للمجلس الوطني رئيس اختارته القيادة ذاتها على عيْن، هو روحي فتوح، من خلال اللجوء إلى مجلسها المركزي؛ الذي اختارته القيادة ذاتها أيضاً، فلا عجب بالتالي من انخراط رئيس المجلس في تصريحات التحريض ضد مؤتمر فلسطينيي أوروبا أيضاً.
تبدأ حملات قيادة السلطة عادة من نسج نظرية مؤامرة مألوفة تدّعي محاولة إسقاط "الممثل الشرعي والوحيد"، بيد أنّ المقولة تبدو ذريعة نمطية لمطاردة العمل الشعبي الفلسطيني بأحابيل التشويه والتحريض.
تُطلق هذه القيادة سُحبَها الدخانية للتعمية على مسؤوليّاتها المباشرة عن واقع الانسداد المزمن في النظام السياسي الفلسطيني. يُغري الاستحواذ على المنظمة القابضين على مفاتيح أبوابها الموصدة التي يعلوها الغبار؛ بادِّعاء وحدانيتهم الفردانية بالتمثيل، وإن لم يختر الشعب هذه القيادة أساساً أو حتى لم تفوِّضه إرادة مشتركة من الفصائل والقوى الفلسطينية بذلك. ما يُراد قوله أيضاً، إنّ القابضين على المفاتيح الصدئة هم الممثِّل الشرعي والوحيد حتى بعد أن أمعنوا في تغييب المنظمة وتجريدها من أدوارها وتعطيل أنظمتها وأعمالها، علاوة على إلغاء ميثاقها الوطني من قبل حسب استحقاقات أوسلو.
لا عجب أن ذهبت النداءات التي حثّت على إحياء المنظمة هباء منثوراً، وإن بقيت تفاهمات تشكيل إطار قيادي للمنظمة يضمّ الأمناء العامين للفصائل حبراً على ورق. علّة الأمر أنّ قيادة السلطة، التي هي قيادة المنظمة أيضاً، لم تجد مصلحة لها بالنزول عند مطالب شعبية ومبادرات وطنية منادية بإعادة بناء البيت السياسي الفلسطيني أو بإصلاحه عبر معايير ديمقراطية وآليّات انتخابية كاملة، أو حتى خطوات انتقالية أو إصلاحات جزئية؛ ومنها مطالب تضمّنتها البيانات الختامية لمؤتمرات فلسطينيي أوروبا المتعاقبة منذ انعقادها الأول قبل عشرين سنة وحتى مؤتمر مالمو في 27 أيار/ مايو 2023.
انقشعت الآمال بإمكانية الإصلاح البنيوي في هياكل النظام السياسي الفلسطيني، واضطرّت القيادة التي تكلّست أكثر فأكثر إلى التنصّل من محطّات انتخابية أعلنت عنها بنفسها مراراً؛ دون أن تعجز عن تبرير إحجامها عن التنفيذ. بصرف النظر عن مبرِّرات تُساق لتسويغ القعود عن الإصلاح أو إعادة البناء أو الإقدام على خطوات انتقالية متدرِّجة؛ فإنّ النتيجة أنّ التكلّس المتراكم آل مع استمراء التقاعس المزمن إلى حالة تحجُّر قيادي لا مناص من الاعتراف بها وتشخيص أعراضها؛ ومنها استيلاء الهواجس على هذه القيادة إلى حدّ الفزع من مؤتمرات جماهيرية فلسطينية تُعقد في منافي الكوكب.
يبدو من المفهوم، إذن، إن تُطلق قيادة السلطة حملات ضارية ضد تجمّعات فلسطينيي أوروبا أو غيرهم، وأن تطارد نشاطات لا تُعلن الانصياع لنهجها الخاسر سياسياً والمعزول شعبياً، ذلك أنّ سلوك التشويه والتحريض والترهيب عن بُعد لا ينفكّ عن حالة التحجّر القيادي والانسداد التمثيلي والقلق الوجودي من حتمية الخروج من التاريخ.
من مضاعفات هذا المأزق المزمن والمتفاقم أن تستشعر قيادة السلطة عجزها عن صناعة الحدث الفلسطيني وانقطاعها عن تصميم الأولويات الوطنية وخسارتها جماهير الشعب في مواقع انتشاره. لدى قيادة السلطة، التي هي قيادة المنظمة أيضاً، المُحتكِرة لقرار "فتح" كذلك؛ خشية جارفة من حيوية شعبها من جانب ومن تلاحُق المتغيِّرات من حولها من جانب آخر. لا عجب أن يحسب القوم كلّ صيحة عليهم، وأن يستسهلوا الإقدام على مسلك مألوف ومتكرِّر قوامه التحذير والتشويه والتخوين واستمراء الرمْي بالموبقات الوطنية ضد تجمّعات شعبهم بلا حدّ؛ مع تغليف ذلك بمقدِّمات التصنيف السياسي المألوفة في استقطابات الانقسام التي كانت.
انعكست أزمة القيادة على خطابها الذي جاء في هذه الحالة مُغالياً ومتشنِّجاً ومتوتِّراً ومفتقراً إلى التناسُب، فاستسهلت المزايدة باسم المبادئ ونزعت صفة الانتماء الوطني بلا ضوابط عن تجمّعات شعبها القابضة على راية فلسطين وحقّ العودة. ما يزيد العجب أنّ القيادة التي تطارد نشاطات شعبها لأجل قضيّته لا تُطلق قذائفها اللفظية الفجّة هذه من خنادق النضال الميداني أو من مواقع المقاومة الشعبية أو انطلاقاً من مشروع وطني يتجاوز متاهتها السياسية.
لا مناص من الاعتراف بأنّ بعض القيادات المنخرطة في هذه الحملة التحريضية ضد فلسطينيي أوروبا هي كما سابقاتها، لم تتبرأ من الالتزام المقرّر بتقديم خدمات استخبارية دؤوبة لأجهزة الاحتلال حسب النهج المعلَن رسمياً؛ وفي النهاية يدفع أبناء الشعب الفلسطيني ثمن هذا الاستخدام البائس من حريّتهم وسلامتهم وأرواحهم كلّ يوم، بصفة لا يمكن إنكارها ولا تجوز توريتها. انتهى الحال بقيادة "تُقدِّس" التخابر المؤسسي مع الاحتلال، المسمّى "التنسيق الأمني"، تقديساً حرفياً حسب تصريح شهير لرئيس السلطة، أن تتّهم مؤسّسات فلسطينيي أوروبا وتجمّعاتهم بالعمل لصالح أعداء الشعب والوطن والقضية!
ثمّة جانب نفسي له اعتباره في خطابات التوتير والتأجيج هذه، يتمثّل في محاولة إسقاط المأزق الذاتي على آخرين، وفي دغدغة الأنا السلطوية بادِّعاء الفوقية والطهارة واحتكار المبادئ والشعارات. ثمّ إنها محاولة لإمساك قيادة متحجِّرة بتلابيب مشهد يتجاوزها وذيول مرحلة تتخطّاها؛ وإن جاء ذلك من خلال افتعال معارك تُسفِر عن مأزقها الذاتي وتزيد من رصيد مَن تستهدفهم سهامُها، كما تبيّن في الإقبال الجماهيري الهائل على المشاركة في مؤتمر مالمو 2023.
استنفرت قيادة السلطة الفلسطينية حملاتها المتعاقبة هذه دون أن تتورّع عن الولوغ في لغة تخوين مستهلكة؛ بدأت بعبارات تشكيك نمطية ساذجة من قبيل: "لمصلحة من يُعقد هذا المؤتمر؟ لماذا في هذا التوقيت تحديداً؟"، بتعبيرات خطيب المقاطعة الذي اشتهر بمرافعاته التحريضية الفجّة في حضور قادة أجهزة الأمن. لم تكفّ حملات "التكفير الوطني" المعهودة هذه عن إطلاق نعوت مدبّبة من قبيل "الخارجين عن الإجماع"، و"أصحاب الأجندات المشبوهة"، وانتهاءً بتوزيع ألقاب العمالة والخيانة والاستخدام الرخيص لصالح الاحتلال ودول أجنبية تصريحاً وتلميحاً.
بلغت حملة التشويه والتحريض ضد فلسطينيي أوروبا حدّ جمع المتناقضات في سلّتها الواسعة؛ فمن تصنيفهم على أساس ألوان معيّنة في الساحة الفلسطينية، إلى اعتبارهم امتداداً مؤكّداً لمصالح إقليمية، ونعتهم بالعمالة لجهاز "الموساد"، ثمّ جزم أحد المنخرطين في الحملة بأنّ سيرجي لافروف هو مهندس مؤتمر فلسطينيي أوروبا؛ أي وزير الخارجية الروسي عينه!
انطلقت حملة التشويه والتحريض والترهيب ضد فلسطينيي أوروبا، ولم تقتصر على منصّات دعائية وشبكية؛ فقد انخرط فيها كبار مسؤولي السلطة، غير المنتخبين بطبيعة الحال، ومنهم رئيس الحكومة ورئيس المجلس الوطني. لم يلحظ هواة "المدرسة القديمة" في التشويه أنّ لحملاتهم تأثيراً ارتدادياً متعاظماً في زمن الشبكات ومواقع التواصل، على نحو استثار نقاشات فلسطينية نشطة عن دواعي هذا الذُّعر من المؤتمر وعن واقع التحجّر القيادي القائم، وحرّك لدى الجمهور أسئلة تأسيسية من قبيل: ومَن انتخبكم أيها السادة أساساً؟
تبسط حالة التحجّر سلطانها على قيادة السلطة، التي هي قيادة المنظمة بطبيعة الحال، علاوة على أنها تستحوذ على فصيل فلسطيني عريق كان يقود الحركة النضالية في زمن مضى. لا تنفكّ أزمة السلطة والمنظمة وقيادة "فتح" عن حالة فقدان الخيارات التي آل إليها أرباب الانزلاق الأوسلوي الذي انهارت وعوده منذ زمن بعيد دون الاعتراف بذلك.
وإذ تعجز هذه القيادة عن صناعة الحدث الوطني المشهود في ذروة موسم فلسطيني ساخن ومرحلة تحوّل دقيقة؛ فإنها تنهمك في محاولة إيقاف عقارب الساعة أو إبطائها، كما تفعل مع الحالة الميدانية ضد الاحتلال في الضفة الغربية ومع نشاطات المنافي الفلسطينية المتصاعدة حول العالم. بلغ الأمر بهذه الحملة أن لجأت إلى لغة تحذير صريحة من المشاركة في مؤتمر فلسطينيي أوروبا تحت طائلة تبعات التهديد والوعيد. إنه منطق سلطة قمعية معزولة شعبياً أغرتها السطوة بمحاولة توسيع نطاقها لتشمل جماهير شعبها ضمن بيئات ديمقراطية حرّة نشأت أجيال من الفلسطينيين والفلسطينيات بين أكنافها، دون التنازل عن القضية والحقوق الثابتة، وفي مقدِّمتها حقّ العودة.
يجوز الاستنتاج، بكلمة أخرى، أنّ حملات التشويه والتحريض الموجّهة ضد نشاطات الشعب الفلسطيني كشفت من جديد حالة عجز مزمنة وجاءت كناية عن موقف فقدان خيارات بالنسبة إلى قيادة أفضت إلى ما قدّمت؛ بعد أن استبعدت الاستراتيجيات البديلة كافّة من حساباتها، فدخلت في حالة ارتهان مُطبِقة لشروط سلطة خدمات أمنية حسب ما فرضه عليها الاحتلال، دون أن تجرؤ على النظر في مرآة واقعها هذا أو تحاول الاستدراك عليه أو الاستقواء بشعبها في الداخل والخارج للفكاك من هذا الواقع المزري.
غنيّ عن البيان أنّ مشروع السلطة الفلسطينية، قام في الأساس على تشغيل وظيفي تحت الاحتلال (إدارة ذاتية) مع واجبات أمنية مقرّرة بوضوح نحوه، وما كان لهذا المشروع أن ينطلق دون وعد سياسي بدولة ما؛ بدت على الورق مُقزّمة وبدون سيادة فعلية. ما حصل لاحقاً أنّ الوعد السياسي الهزيل تبدّد سريعاً وبقيت السلطة عالقة في مأزق تعجز عن الفكاك منه، فهي رهينة واجبات التشغيل الوظيفي للأعباء اليومية والتزامها بتقديم خدمات أمنية سخيّة للاحتلال تبرِّر إبقاءه على السلطة وامتيازات طبقتها القيادية المتكلِّسة، مع تفاقم متزايد في عزلتها عن الشعب وقعودها لنضاله اليومي كلّ مرصد.
من الوهم تصوّر أنّ الحملة ضد فلسطينيي أوروبا استهدفتهم وحدهم؛ فهي تعني ضمناً مطاردة أنفاس الحياة جميعاً التي قد تظهر بواكيرها في تجمّعات الشعب الفلسطيني حول العالم. هذا ما جرى من قبل بالجرعة ذاتها تقريباً مع حملات ضارية مماثلة أطلقتها قيادة السلطة ضد "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج"، لكنّها عجزت عن إحباط انطلاقه. فقد احتشد في مؤتمره التأسيسي عام 2017 ما يربو على ستة آلاف مشارك ومشاركة؛ بينهم حشد غفير من قادة التجمعات والمؤسسات والروابط الفلسطينية الذين توافدوا لإطلاق الحدث من منافي العالم. تُظهِر سيرة "المؤتمر الشعبي" منذ حدثه التأسيسي الكبير أنّ ذرائع حملة التشويه والتحريض المحمومة التي طاردته يومها لم يكن لها أدنى نصيب من الواقع. فلا المؤتمر ادّعى أنه بديل عن المنظمة، ولا كانت لجغرافيا الانعقاد الأوّل (إسطنبول) دلالة وصاية على وجهة مؤتمر يتّخذ من بيروت مقرّاً لأمانته العامّة.
من مراوغات الخطاب أن تمعن قيادة السلطة، الضالعة في واقع الانقسام السياسي في الساحة الفلسطينية، باتهام فعاليات فلسطينيي الخارج بشقّ الصفّ والإضرار بالوحدة الوطنية وتعميق الانقسام! أمّا محاولة إلحاق الفعاليات الجماهيرية والشعبية الفلسطينية في البلدان الأوروبية والغربية بتصنيفات سياسية معيّنة، فلا تخطئ تأويلها بأنها تتضمّن تغذية لحملات التحريض والتشهير الضارية التي تطارد بها دعايةُ الاحتلال الجهودَ الفلسطينية والتضامنية في كلّ مكان، من خلال قوْلبتها وإلحاقها بالتصنيفات السياسية ذاتها ووصمها، بالتالي، بدعم الإرهاب.
مما لفت الانتباه أنّ الحملة التي أطلقتها قيادة السلطة تحاشت أي إشارة إلى أنّ مؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي هاجمته يلتئم في الواقع في نسخته العشرين، بعد محطّات انعقاد طافت القارة الأوروبية، في لندن وبرلين وفيينا وباريس وكوبنهاغن وفوبرتال وميلانو، وفي مالمو ذاتها مراراً من قبل. ذلك أنّ الإشارة إلى عراقة التجربة ورسوخ قدمها مع ما حظيت به من مشاركة ألوف مؤلّفة من جماهير الشعب في كل موسم؛ من شأنها أن تفسد حبكة التشهير المعهودة.
معلوم أنّ عقد هذا المؤتمر استمرّ بدأب مشهود طوال العقدين الماضيين، فصار موسماً كبيرا يُتوِّج عاماً مضى من نشاطات فلسطينيي القارّة الأوروبية على الأرض، ويستشرف عاماً تالياً بآفاق التطوير والتشبيك والتخصّص في مجالات العمل العامّ ضمن المجتمع المدني الأوروبي والعالمي. يتّضح من سجلّ هذه الجولات أنّ قيادات وشخصيات من أطياف الساحة الفلسطينية حضروا أعماله عبر هذه المسيرة المديدة، ومعهم متضامنون أوروبيون من الحياة السياسية والبرلمانية والمدنية والثقافية، كما حضر سفراء فلسطين الرسميون بعض جولات انعقاده وكانت لهم كلمات افتتاحية فيه أحياناً، بما في ذلك أوّل مؤتمريْن في عهد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قبل اغتياله؛ وقد عُقدا في لندن ثمّ برلين. يعني ذلك أنّ إسباغ نعوت التشهير على هذه التجربة إنّما يقدح بمن شاركوا فيها عموماً، علاوة على أنّه اتهام تعميمي جائر يتعسّف مع الشعب إجمالاً من خلال استهداف وفود فلسطينيي أوروبا وحشودهم التي انتظمت فيه جولة بعد جولة.
لا حاجة إلى استعادة السؤال النمطي عن سبب إحجام السلطة، ولو عبر الإيعاز إلى سفاراتها أو مقرّبيها حول العالم، عن إقامة نشاطات جامعة وأحداث كبرى كالتي هاجمتها هذه الحملة. علّة الأمر أنّ واقع العزلة الشعبية المتزايدة تجعل القيادة المتحجِّرة أسيرة رهاب الجماهير التي لن تهتف بكل تأكيد لقيادة تستفزّ شعبها؛ وتثير حنقه وتتخندق في مواجهه جهوده ونشاطاته على هذا النحو السافر.