لقد سبق لي معرفة د. نبيل شعت واللقاء والحوار معه منذ أوائل التسعينيات، وخاصة في الفترة التي سبقت التوقيع على اتفاق أوسلو في أغسطس 1993 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وكذلك بعد الاتفاق، حيث التقيناه في محاضرة له بالمجلس الإسلامي الأمريكي للحديث عن الاتفاق، وما الذي يمكن أن يحققه الفلسطينيون عملياً من وراء ذلك على مستوى مشروع الدولة والاستقلال وعودة اللاجئين.. تحدث د. شعت وأفاض فيما يراه إيجابيات لذلك الاتفاق، إلا أن طرحه لم يقنع معظم من شاركوا الحضور والنقاش من الإسلاميين.
في عام 2003، كان آخر لقاء رأيته فيه بالعاصمة الأمريكية واشنطن، عندما جاء مع الوفد الفلسطيني المرافق للرئيس محمود عباس، بعد أن تمَّ تكليفه من الرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) بترؤس الحكومة، والذي كان د. شعت قد عيّن فيها وزيراً لشؤون العلاقات الخارجية.
مرت سنوات قبل أن نلتقي مرة أخرى خارج واشنطن، إلى أن جمعتنا ساحة غزة بعد نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية في يناير 2006، وتشكيل حكومة الأستاذ إسماعيل هنية في مارس من ذلك العام، حيث عملت فيها مستشاراً سياسياً لرئيس الوزراء، وهذا أتاح لي اللقاء بالصديق د. شعت والتواصل معه كثيراً، وخاصة بعد الأحداث المأساوية الدامية التي وقعت في 14 يونيو 2007، وحصلت بعدها القطيعة والانقسام، والتشظي الفظيع الذي أصاب النسيج الفلسطيني، من جراء المناكفات والاتهامات الجارحة من كل طرف للآخر بأنه من كان يقف خلف الكارثة التي ألمَّت بالشعب والقضية.
لم يتوقف د. شعت عن التواصل ومحاولات البحث عن أرضية للقاء والعمل لإصلاح ما أفسدته حالة التنازع على السلطة، وكان الرجل يشاطرني أن ما وقع كان كارثة وطنية، وأن هناك جهات إسرائيلية وربما إقليمية كانت لها مصالح في عملية تمزيق الشمل الفلسطيني وتشتيت قواه.
لم أشك بصدق الرجل في محاولاته للتقريب، وطلبه اللقاء والتواصل مع حركة حماس من حين لآخر، حيث كان يأمل أن نتجاوز تداعيات المحنة التي وقعت، ونعيد ترتيب البيت الفلسطيني بالشكل الذي يعزز من قدرات مشروعنا الوطني على الصمود في مواجهة مخططات إسرائيل الرامية إلى ابتلاع الضفة الغربية، وتهويد القدس وكل ما يمت للتراث الديني والحضارة الإسلامية بالمدينة.
لقد نقل الرجل من موقعه القيادي في حركة فتح، وكأحد الرجال المقربين من الرئيس عباس (أبو مازن)، أكثر من رسالة إلى الأخ إسماعيل هنية وقيادة حركة حماس، إلا أن الكثير من هذه المحاولات كانت تبطلها المناكفات الإعلامية وبعض الأحداث والإجراءات الأمنية، التي كانت تقع هنا أو هناك، لتبدأ بعدها سجالات من الاتهامات والاتهامات المضادة، لنجد أنفسنا كتلك التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً!!
إن من الجدير ذكره، الإشارة إلى اتصال د. شعت قبل اللقاء الإعلامي بين الرجوب والعاروري بأسبوع، حيث ذكر لي أنه لا بدَّ من وقفة يشارك فيها "الكل الفلسطيني"، وخاصة الإخوة في حركة حماس، بهدف التصدي لقرار الضم الإسرائيلي، وإسناد مواقف الرئيس أبي مازن وخطواته في هذا الاتجاه.
تواصلت مع بعض الإخوة في قيادة الحركة بالعاصمة القطرية الدوحة، الذين قالوا إن الحركة جاهزة لتنسيق المواقف، ولكن لا بدَّ من لقاء مع الرئيس أبي مازن وجهاً لوجه وبعيداً عن سلطة الاحتلال، حتى نتمكن من وضع الرؤية وإستراتيجيات العمل والتحرك، وضمان مشاركة الجميع في الرأي والمشورة.. أبلغت د. شعت بالموقف. وفجأة؛ جاء المؤتمر الصحافي الذي جمع بين القياديين جبريل الرجوب وصالح العاروري، حيث تبادلا أطايب الكلام، وخرج الشارع الفلسطيني بتغريدات كثيرة كانت عباراتها تتراوح بين التفاؤل والتشاؤم، حيث نقلتها وسائل التواصل الاجتماعي وأقلام الكتَّاب والمحللين، وإن كانت النبرة العامة خلاصتها: "فرصة أخرى.. لعل وعسى!!".
من جهتي، كنت أتمنى أن تتمخض تلك اللقاءات والثنائيات الإعلامية عن مشهد مضيء يمكن أن نطوي به الذكر صفحاً عن سنوات كنا نعاني منها الكثير من خيبات الأمل، حيث كان يطل علينا بعض قيادات السلطة وحركة فتح بتصريحات وتعليقات مستفزة تغذي حالة التشرذم والإحباط، ويتم الرد عليها بلغة حزبية تُكرس مفهوم "أضحى التنائي بديلاً عن تلاقينا"!!
لا شك أن هناك بعض القيادات التي يمكننا أن نطلق عليها اسم "مسعِّرو حرب"، ولا يمكن المراهنة عليها في تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، إلا أن د. نبيل شعت لم يكن من هذا النمط من القيادات؛ لأن طبيعته السياسية وتركيبته الفكرية ومهاراته المتميزة في العمل الدبلوماسي، ونظرته تجاه الآخر الفلسطيني، تمنحه الأهلية أكثر من غيره لقيادة المشروع القائم على الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
إن ما يمكننا قوله فيما يتعلق بتلك المؤتمرات واللقاءات الإعلامية بين قيادات من حركتي فتح وحماس؛ سواء في قطاع غزة أو لاحقاً في القاهرة أو الدوحة، فإن النتائج لن تبتعد كثيراً عما ذكره د. موسى أبو مرزوق؛ عضو المكتب السياسي لحركة حماس، حيث أشار إلى أن آفاق المصالحة والسيناريوهات المتوقعة ستمضي في ثلاثة مسارات تضبطها هذه الحوارات الجارية.. المسار الأول؛ جاء في سياق أمني، والمسؤول عنه ماجد فرج؛ مدير جهاز المخابرات العامة، ولم يتم التوافق معه في أي من النقاط التي عرضها للعمل في الضفة، باعتبار أنه لا يريد مقاومة ولا مشاركة سياسية.
أمّا المسار الثاني؛ فيعنى بالمصالحة، والمسؤول عنه القيادي في فتح عزام الأحمد، وفي هذا الشأن لم يحدث أي لقاءات ولم يتم التحرّك على أي صعيد.
وفيما يخص المسار الثالث؛ المسؤول عنه اللواء جبريل الرجوب، فهو مخصص لمقاومة خطة الضم الإسرائيلية في الضفة الغربية، وبالفعل تقدمنا خطوات، وتمَّ عقد مؤتمرين: الأول في غزة، والثاني في رام الله، الذي كان حديثًا أمام التلفزة، واقتصر على فعاليّات مشتركة لمجابهة الضم.
وعليه؛ فإن قناعتي كمراقب للمشهد الفلسطيني، أن المرغوب به حالياً من السلطة والرئيس أبي مازن لن يتجاوز أكثر من تحركات سلمية شعبية رافضة لمخططات الضم، والتخفيف من نبرة الخطاب الإعلامي الاستفزازي بين فتح وحماس، وانتظار ما يمكن أن تأتي به الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم، والمراهنة على فرص التغيير لصالح إدارة ديمقراطية تعمل على عودة التفاوض بين الطرفين، وشراء الوقت لابتلاع المزيد من الأرض، وتغييب حلم الفلسطينيين في دولة مستقلة تجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزة.