أثارت تغريدات البعض حول تحويل متحف (آيا صوفيا) إلى مسجد، الكثير من اللغط والصخب الإعلامي، وطرحت العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام المحيِّرة، والتي تركزت محاورها في التساؤلات الآتية: هل هذا الحدث فريد في تاريخ الشعوب والأديان؟ وكم هي أعداد المساجد حول العالم التي حُوِّلت إلى كنائس أو العكس؟ وهل فعلًا شكَّلت عملية التحويل هذه استفزازًا للعالم المسيحي؟ ومَن مِن المسيحيين أو طوائفهم وجد في هذه الخطوة عملية إهانة أو استعداء له؟ وهل هناك مشابهات لعمليات تحويل قامت بها دول غربية لمساجد على أراضيها بعد خسارة العثمانيين ونهاية الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى؟ وماذا يقول أهل العلم والاختصاص حول القرار الذي اتخذته تركيا أردوغان بشأن هذا الأمر، من حيث المشروعية الدينية والقانونية؟
في السياق التاريخي، كانت (آيا صوفيا) كاتدرائية وكنيسة بيزنطية، ثم حُوِّلت إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية في 29 مايو 1453م على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، والذي أمر بتحويلها إلى مسجد، وقدَّم التعويضات اللازمة لذلك، والتي استندت عليها المحكمة في اتخاذ القرار بعودة ملكيتها للمسلمين كمسجد، وبُطلان قرار تحويلها إلى متحف، والذي تمَّ في عهد كمال أتاتورك عام 1935م.
إذا ألقينا نظرة على صفحات التاريخ فسوف نجد بأنَّ هناك الكثير من المساجد التي حُوِّلت إلى كنائس أو زرائب وملاهٍ ليلية وأماكن سياحية، وربما الأشهر اليوم هو "مسجد قرطبة الكبير"، حيث طمس الإسبان معالم المسجد ليصبح كنيسة ومزارًا سياحيًّا، وهناك مدن أخرى غير قرطبة؛ عاصمة الأمويين في الأندلس، مثل إشبيلية وغرناطة وملقة التي سوِّيت معظم مساجدها بالأرض، وأصبحت منذ زمنٍ أثرًا بعد عين، وقد شاهدتُ ذلك بأُمِّ عيني خلال زيارتي لإسبانيا عام 2011م.
وإذا أخذنا دولًا أوروبية ممن كانت ضمن أراضي الإمبراطورية العثمانية ونالت استقلاليتها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فإنَّ ما قامت به تجاه أماكن العبادة الإسلامية فيها لا يعكس أي احترام أو قداسة لمشاعر المسلمين حول العالم، وقد شاهدنا ذلك على سبيل المثال لا الحصر في اليونان وإسبانيا وبلغاريا وأرمينيا والمجر.
وإذا أجرينا مقارنات بما تركه العالم المسيحي من كنائس ما زالت قائمة، ولها أتباعها في معظم بلاد المسلمين، فإننا نجد ما يعكس الحرية الدينية وثقافة التغافر والتسامح التي عززها المسلمون مع مواطنيهم من أهل الكتاب، وتشهد اليوم أروع تجلياتها في الكثير من البلدان الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط كمصر وتركيا وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين والجزائر... إلخ.
آيا صوفيا.. استعادة مكانة وقيادة
في مقال له بعنوان: "ماذا تعني إعادة آيا صوفيا إلى مسجد؟"، أجاب ياسين أقطاي؛ مستشار رئيس حزب التنمية والعدالة: إنَّ إعادة آيا صوفيا مسجدًا بقرار رسمي من الرئيس أردوغان، يمثل إزاحة غيمة من الغيوم السوداء التي كانت مُطبقة على العالم الإسلامي على مدار 86 عامًا. وأضاف: إنَّ من الواجب أنْ نعلم أنّ قرار آيا صوفيا اليوم ليس شيئًا ولا أمرًا عاديًّا أو بسيطًا، إذا كان وراء هذا القرار وعيًا وإرادة أكبر بكثير من قضية تحقيق رؤية الأجداد العظماء.. إنها إشارة إلى أنَّ تركيا تملك من القوة والقرار لتحمُّل مسؤولية ذلك أمام العالم كله لو اقتضى الأمر، الأمر ليس بسيطًا يقتصر على مجرد إعادة آيا صوفيا مسجدًا، بل إنه ترجمة لوضع العالم الإسلامي اليوم. إنَّ من الكلمات التي توضح ذلك توضيحًا جيدًا للغاية هي التي قالها الرئيس أردوغان الذي تشرَّف بالتوقيع على هذا القرار: "إنَّ قيامة آيا صوفيا، هي بشارة تحرير المسجد الأقصى".. لقد عرّفْنا القدس من قبل على أنها مرآة العالم، حيث تجسَّد وتلخَّص الحال الذي يكتنف العالم اليوم. في الواقع، يمكن أن ينطبق الشيء ذاته على آيا صوفيا. ولذلك، فإنَّ قيامة آيا صوفيا اليوم كما وصفها أردوغان: "أضاءت شعلة الأمل ليس فقط للمسلمين، بل معهم كل المظلومين والمضطهَدين والمستغلَّين في هذا العالم… إنها تفيد بأنَّ لدى الأمة التركية ما تقوله للمسلمين وللإنسانية كلها في هذا العالم".
آيا صوفيا.. مواقف ورجالات وكلمات خالدة
تفاوتت الردود على قرار عودة الحق إلى أهله بين المباركة والتأييد، وبين أصوات أظهرت التباكي والنفاق السياسي؛ لعلَّ أكثرها جاء من خلفيات يسارية وعلمانية ومسيحية متطرفة، ليس حزنًا على المتحف أو الكنيسة، ولكن تحاملًا على الرئيس أردوغان، الذين تصيبهم الغُصّة عند ذكر إنجازاته. لقد أعجبتني تلك الكلمات التي أطلقها د. علي القره داغي؛ الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في رده على مثل هؤلاء، بالقول: "تحوّلت مساجد المسلمين في الأندلس لكنائس وبارات ونوادٍ ليلية! وتحوَّل مسجد بابري في الهند إلى معبد للأصنام! ويريدون تحويل القدس بكل مقدساتها عاصمةً للصهاينة! ولم نسمع صوتًا غربيًا أو شرقيًا يدين هذه الجرائم!! لكنَّ تحويل آيا صوفيا لمسجدٍ أخرج أضغان وأحقاد مرضى القلوب من الشرق والغرب!!
وكانت الكلمة الأروع تلك التي جاءت على لسان الأب منويل مسلَّم؛ رئيس الهيئة الشعبية العالمية لعدالة وسلام القدس، وكانت بمثابة رؤية وتوجيه لما يتوجب أن يكون عليه الموقف المسيحي من التقدير لمثل هذه الخطوة، حيث قال: "انتبهوا إلى أنَّ الرئيس أردوغان رفع من قدر وكرامة كنيستنا آيا صوفيا من متحف تدوسه أقدام الأمم، إلى عظمة ومحبة واحترام وتقدير جامع، يُذكر فيه الله ويُمجّد اسمه". وأوضح قائلاً: "ما دام المسلم يحترم كنيستي فهو يحترمني، شاءت الأقدار والتاريخ أن تنتقل هذه الكنيسة العظيمة مع أهلها إلى الإسلام". وأضاف: "الشعوب تنتقل وتغير لغتها ودينها، ومع الشعوب تدخل الجوامع في المسيحية كما جرى في إسبانيا، وتدخل الكنائس مع المسيحيين في الإسلام".
باختصار؛ إنَّ طغيان الفكر العلماني حول العالم وخاصة في الغرب قد أضعف من الحساسيات الدينية، فهناك اليوم في فرنسا وأمريكا وبريطانيا وألمانيا آلاف المساجد والمراكز الإسلامية، وقد اشترت الجاليات المسلمة في بعض تلك البلاد كنائس وحوّلتها إلى مساجد، وقد صلينا في بعضٍ منها في أمريكا. لذلك، فإنَّ الأجواء العامة في الغرب تنحو في سياقها الديني إلى منطق التعايش واحترام الآخر، وكمواطنين "لكم دينكم ولي دين". وليست هناك حساسيات تجاه بناء المساجد أو الكنائس ما دام هناك من سيعمّرها من المسلمين أو المسيحيين.
في الختام.. إنَّ ما أثاره البعض من حالة تباكٍ لإشعال فتنة حول "آيا صوفيا"، بهدف تشويه صورة تركيا أردوغان والتحريض عليها، لم يتجاوز في مماحكاته أكثر من مشهد بائس لفزعة أو "ضجة مفتعلة"، وسرعان ما وُئدت الفتنة في مهدها، ووقى الله بذلك تركيا وأمتنا الإسلامية من شرها، ويمكرون ويمكر الله.