منذ أن أخفقت ثورات الربيع العربي في بلوغ أهدافها بتحقيق نظامٍ سياسي ديمقراطي قائم على الشراكة والتوافق الوطني، رغم تمكنها من الإطاحة برؤوس بعض الأنظمة المستبدة في المنطقة، إلا أن الأمر أثار ذعراً وقلقاً كبيرين في عدد من الأنظمة الملكية والخليجية منها على وجه الخصوص، كون سلوكيات أنظمتها - برأي البعض – هي أشبه بالحكم المطلق، حيث تحتكر العائلة المالكة أو القبيلة مشهد الحكم والسياسة، وتبسط سلطتها على مصادر الثروة والمال. ولذلك شاهدنا مواقف بعض هذه الدول تأخذ مساراً معادياً للإسلاميين من الإخوان المسلمين؛ باعتبار أنهم المحرِّك لهذه الثورات والعاملون على تأجيجها، لامتلاكهم القدرات التنظيمية والحركيّة على تغذية حالات التذمر والاحتقان والرفض الشعبي داخل الشارع العربي، وإسناده بالدوافع والنصوص الدينية والذرائع والمبررات القيمية لبلوغ أهدافه، وبالتالي تهديد مستقبل هذه الملكيات الحاكمة من الاستحواذ والسيطرة المطلقة على السلطة والثروة، مع غياب كامل لأجهزة الرقابة والمساءلة.
في المقابل فإن البعض الآخر من هذه الملكيات الحاكمة آثر السلوك الديمقراطي، وذلك بتبني سياسة الاحتواء والمهادنة والاسترضاء، للحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وقطع الطريق أمام المتربصين ومقاولي الصراعات والحروب الأهلية، ولعل المغرب قد قدَّمت نموذجاً متميزاً في هذا المجال، ثم الأردن، وإن كان ذلك بدرجة أقل .
إن الذي يتابع مشهد دول الخليج أو دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بالموقف من الإخوان المسلمين أو التيار الإسلامي الذي له رؤية ومنطلقات سياسية، فسوف يلحظ أن هناك تباينات في المواقف والسياسات، ففي الوقت الذي تجاهر فيه دول مثل الإمارات والسعودية بتبني نهج عدائي، وتقوم بحملات إعلامية تحريضية، بهدف تقويض مكانة الإخوان المسلمين أو العمل على تحجيم نفوذهم في المنطقة، فإننا نجد أن بعضها الآخر كقطر والكويت لا تخفي تقديرها ودعمها لأصحاب التيار الإسلامي، والنظر إليه كعنصر إيجابي يمكن التعايش معه واحتواؤه سياسياً، وربما توظيفه لتحقيق التوازن مع أيديولوجيات علمانية لا ترى في الملكيات القائمة الشكل المناسب للحكم.. هناك أيضاً البحرين وعُمان، ولكن يبدو أن سياسة المهادنة وغضّ الطرف، والابتعاد عن الاستفزاز هي سيدة الموقف في تلك البلاد.
لا شك أن السؤال الذي يطرحه الإسلاميون أو الإخوان عامة، ويدور في مجالسهم وحواراتهم: لماذ كل هذا العداء الذي تُبديه الإمارات وتكنّه السعودية لهؤلاء الإسلاميين في بلدانهم وخارجها، في حين الذاكرة الإخوانية أو الإسلامية لا تحفظ لهذه البلدان إلا مواقفها التاريخية الطيبة في احتضان ودعم وحماية قيادات وكوادر هذه الحركات، ورفدها بالأمن والأمان والمال الوفير ومنابر الإعلام، وهو ما أسهم بانتشار الدعوة الإسلامية في حواضر الدول الغربية، وإعلاء شؤون الجاليات العربية والمسلمة المتوطنة في أوروبا وأمريكا.
لقد عشت قرابة عقدين من الزمن في الولايات المتحدة، حيث كان المدُّ الإسلامي يشهد ألقاً وطفرة استثنائية في أوساط الجالية المسلمة على مستوى الالتزام الديني وبناء المساجد والمراكز الإسلامية، وكان الفضل في كل ذلك يرجع لدول الخليج، وعلى رأسها تقف المملكة العربية السعودية والكويت وقطر والإمارات. ولكن هذه التبرعات الخليجية السخيِّة التي أسهمت في انتشار الإسلام في أمريكا، كان يقف وراء تشغيلها طاقات إخوانية متميزة من مصر وسوريا والعراق وفلسطين والسودان، كونها القوة الدافعة وراء عمليلت التخطيط والإدارة لمعظم تلك المؤسسات الدعوية والتعليمية والإعلامية في أمريكا. في الحقيقة إن الوضع نفسه كان ينطبق على دول أخرى في الغرب الأوروبي، حيث إن الكرم والمال الخليجي السخي الذي كان يصل للمؤسسات والجمعيات الإسلامية - في سياق التبرعات والهِبات الخيرية – كان له كبير الأثر في انتشار الإسلام في دولٍ مثل بريطانيا والسويد وألمانيا وفرنسا..الخ.
كان مشهد انتشار الإسلام في الغرب يبعث على الارتياح والبُشرى، ويمنحنا الشعور بقرب دخول هؤلاء الناس في دين الله أفواجاً. كان الإسلاميون في بلاد الغرب يحفظون لدول الخليج كل التقدير، ويباركون كل ما أفاء الله عليهم من نعمائه في تجليات ثروة البترودولار، وثمراته المباركة في هذا البعث والتمدد الإسلامي في حواضر غربية كانت لوقت غير بعيد تحارب الدين وتعاديه، وإذا بها اليوم يصبح فيها المسلمون جزءاً من مكونها الثقافي والديني وتركيبتها السياسية ونسيجها المجتمعي.
في الحقيقة لم يكن هذا الانتشار الواسع للتيارات والحركات الإسلامية في الغرب يشكل أي تهديد قريب أو بعيد لأنظمة الخليج، ولكنَّ هيجان الشعوب وثورتها ضد الأنظمة المستبدة في المنطقة، ونجاحها في إسقاط العديد من عروش الطغاة فيها، أوجس في نفوس البعض منهم الخِيفة والقلق بأن موجة التغيير العاتية لن تتوقف عند تلك الأنظمة الدكتاتورية من جمهوريات الخوف، بل ستتخطاها إلى أبعد من ذلك. وعليه تسارعت بعض تلك الدول في توظيف أموالها وعلاقاتها في تحركات مضادة لوقف المد، والعمل على إجهاض كل ما تحقق من نجاحات.
اليوم الشارع الإسلامي محتقن ومتحامل بشكل كبير على بعض تلك الدول الخليجية، التي تواطأت على إفشال ثوراته وتحطيم آماله وأمانيه في التغيير والإصلاح الديمقراطي بالمنطقة.
إن الأمر المثير للدهشة والاستغراب -كما يقول الإسلاميون- أن السعودية ودولة الإمارات لم تكونا يوماً سهماً قاتلاً في الخاصرة الإسلامية، بل كانتا دوماً أحد أسهم الخير في كنانة الدعاة، وكل القوى الوطنية والإسلامية المطالبة بالتغيير في المنطقة.
في المنظور الإسلامي العام، خسرت المملكة العربية السعودية وكذلك دولة الإمارات الكثير من أرصدة الخير لهما في نفوس أبناء الأمة الإسلامية، بسبب مثل هذه المواقف السلبية تجاه تيارات وقوى الإسلام السياسي، الأمر الذي يزيد من شرذمة دول المنطقة وتفككها وتآكل قدراتها، وتضييع فرص نهضة شعوبها، لتأخذ لها مكاناً تحت الشمس.. كما أن عمليات الهرولة والتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي المارقة تعاظم من حالات التحامل والغضب والعداء لتلك الدول.
في المقابل، فإن المواقف التي اتخذتها قطر والكويت بإنصاف حركة الإخوان المسلمين، والعمل على تليين مواقفهم، قد لاقت – بشكل عام - تقديراً كبيراً في الشارع الإسلامي.
إن إرادة الشعوب أقوى من أي ظلم أو مظلومية يمكن أن تلحق بها، ومن أراد لمنظومة الحكم في بلاده الأمن والمكانة والاستقرار والازدهار فليس الطريق هو استعداء الأمة والانفتاح على خطوط أعدائها.
إن كل بلادنا العربية غالية علينا، ونجد -نحن الإسلاميين- في وحدتها وتماسكها قوة لنا، ونأمل أن يسود منطق الحكمة والعدل والتصافي نفوس حكامها، حيث إن سياسة التعايش والاستيعاب لكل المكونات الدينية والأيديولوجية هي السبيل الأفضل للحفاظ على أمن دول المنطقة واستقرارها. إن الإسلاميين هم جزء من الخريطة السياسية في دول الخليج والمنطقة، وإن محاولات البعض لكسر شوكتهم والتحريض عليهم ستبوء بالفشل، بل إن تداعيات هذا الاستعداء ستعود حسرات عليهم، وصفحات التاريخ مليئة بالشواهد والعبر.
إن الإسلاميين هم اليوم أكثر انفتاحاً وإيماناً بالشراكة الوطنية والدولة المدنية، ولم يعد لمخاوف الماضي أي مبررات، حيث غدت "السلميّة" نهجاً للتغيير، والانتخابات طريقاً للتداول السلمي للسلطة، في حين الملكيّة الدستورية غدت تلوح كخيار مطروح لاستقرار أنظمة الحكم الملكية وخاصة في المنطقة الخليجية.