إنَّ ثلاثين عامًا من العلاقة في مجالات العمل الدعوي والانتماء الحركي ومشهد الحكم والسياسة، كانت أكثر من كافية لفهم شخصية د. محمود الزهار (أبو خالد)، من حيث ما له وما عليه، إذ إنَّ معرفتي به تعود إلى عام 1988، بعد عودتي من أمريكا إلى قطاع غزة، حيث كانت الانتفاضة الفلسطينية في أوجِّ فعالياتها النضالية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وجدت نفسي منخرطاً في أكثر من لجنة من اللجان التي أسستها حركة حماس، لاعتبارات التخصص وأقدمية الانتماء للحركة الإسلامية في نهاية الستينيات، كانت اللجنة السياسية هي واحدة من اللجان التي جمعتنا للعمل معاً، والتي كان يُشرف عليها المهندس إسماعيل أبو شنب (رحمه الله)، وكان د. الزهار أحد أعضائها، عملنا معاً قرابة العام ونصف العام، ثم غادرت قطاع غزة عائداً إلى أمريكا لاستكمال دراسة الدكتوراه في مايو 1989.
كانت هذه المدة فرصة لمعرفة د. الزهار، إذ كان مشهوداً له بالحضور الرأي الفاعل، فهو شخص متحدث ومتابع للأحداث، ودائماً هو صاحب موقف وتحليل لمجريات الأحداث والوقائع، وهذا ما كانت تتطلبه أعمال اللجنة السياسية؛ أي قراءة مشهد الانتفاضة وتحليله، وأيضاً متابعة ما يتحدث به الإعلام العبري، وما يصدر من تصريحات عن أهل السياسة وجنرالات العسكر، والخروج بتقديرات موقف توضع بين أيدي المستويات السياسية والأمنية في الحركة لدراستها، واتخاذ القرار المناسب للتحرك.
كان د. الزهار يُدّلي بدلوه مع الآخرين من إخوانه باللجنة في سياق الرأي والمشورة، وكان صاحب دُعابة تملأ أجواء المكان بروح من التفاؤل والابتسام.
بعد مغادرتي للبلاد، التقيت به في نهاية العام 1989، عند حضوره فعاليات مؤتمر إسلامي في مدينة شيكاغو الأمريكية، وقد جاء مع وفد فلسطيني برئاسة د محمد صيام (رحمه الله).
مرت سنوات الانتفاضة، وكانت أخبارها تغطى من وسائل إعلامية عربية وغربية، وكان د. الزهار يظهر على شاشاتها متحدثاً من حين لآخر.
عقب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في يناير 2006، عُدُّت إلى قطاع غزة قادماً من الجزائر، إذ اتسعت دائرة المعرفة واللقاء بيننا.
كلِّفت بالعمل مع رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية كمستشار سياسي، في حين تقلد د. الزهار منصب وزير الخارجية في الحكومة العاشرة.
كانت أول مهمة ترافقنا فيها قبل مباشرة عملنا الرسمي، هي الاستجابة لنداء من مجموعة "أطباء بلا حدود" الدولية، إذ انتابها شعور بالخوف أنَّ وجودها داخل القطاع بات مهدداً بعد فوز حماس في الانتخابات، فعملت على تسريع خروجها من القطاع.
علمت قيادة حماس في منطقة وجودهم بالأمر، فتمَّ الاتصال بالنائب الأستاذ عبد الفتاح دخان، الذي تعهد لهم بتأمين سلامة وأمن هذا الوفد.
كلَّفني الأخ إسماعيل هنية رئيس الوزراء مع د. الزهار بمتابعة الأمر، وتأمين خروجهم بأمن وسلام.
ذهبنا معاً إلى المنطقة الوسطى، وعملنا على طمأنة الوفد وتبديد مخاوفه، وعرضنا عليهم استضافتهم في حمايتنا كحكومة، إلا أنهم أجابوا بأن سفارة بلادهم تجري اتصالات مع الإسرائيليين للسماح لهم بمغادرة قطاع غزة عبر معبر(إيرز)، أوصينا بهم خيراً، وطلبنا من الأمن تسهيل مهمة وصولهم إلى المعبر.
كانت اجتماعات الحكومة الأسبوعية هي الفرصة الأكبر للتعرّف على قدرات د. الزهار السياسية، ووعيه بالأحداث والمتغيرات التي تطرأ على المنطقة العربية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية وأوضاعنا الداخلية، وكذلك ما يجري في الدول الغربية وتداعيات كلّ ذلك على مشهد الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ومستقبل الوضع الفلسطيني، هذه المساحة من النقاش كانت -عادة- مخصصة للدكتور الزهار بحكم منصبه كوزير للخارجية، وتقع على كاهله متابعة كلّ هذه الملفات بالنظر والتحليل.
ويمكن القول؛ إن الرجل كان يتمتع بملكات فكرية ومعرفية أفضل من غيره في القراءة والتخليل، إذ كنا نتفق معه حيناً، وأحياناً كنا نختلف، وخاصة فيما يتعلق بالسياسات الغربية وأمريكا بالتحديد، كوننا درسنا وعملنا فيها لعقدين من الزمن، إذ خبرنا فيها من واقع الميدان طبيعة السياسة القائمة على اعتبارات المصالح، وأنَّ من السذاجة الرهان على مواقف نزيهة لصالح قضيتنا، إذ إن إستراتيجية الغرب -للأسف- كانت دائماً منحازة لإسرائيل.
لم تكن معرفتي به وبقدراته السياسية تقف عند اجتماعات مجلس الوزراء، إذ عملنا أيضاً في وزارة الخارجية، وفي مجلس الشورى العام للحركة، وكان هو مسؤولاً عن إعداد التقرير السياسي السنوي، الذي يتضممن الرؤية الاستشرافية في سياق المقاربات والتحديات.
في 17 إبريل 2008، كانت زيارة وفد حماس إلى القاهرة للقاء الرئيس الأمريكي السابق كارتر، اجتمعنا في فندق سميراميس بالقاهرة، وامتد النقاش حوالي خمس ساعات، كان فيها د. الزهار هو من يتحدث ويجيب على التساؤلات أغلب الوقت، قدّم د. الزهار حركة حماس كحركة فازت بانتخابات ديمقراطية وبدرجة عالية من الشفافية شهد عليها مركز كارتر كأحد الجهات التي أشرفت على مراقبة الانتخابات، وكون العملية الانتخابية هي استحقاق ديمقراطي، فإن من حق الحركة أن تحكم، وأن تأخذ فرصتها في إدارة شؤون البلاد، وهذا موقف لم يختلف عليه أحد، ثم استعرض د. الزهار المضايقات التي تعرضت لها الحكومة من إسرائيل، وجهات سياسية فلسطينية أخرى كانت تعمل بكلِّ السبل لإفشال تجربة الحركة في الحكم، ثم أوضح د. الزهار مواقف الحركة من الاحتلال ونظرة الحركة وموقفها من العلاقة مع الغرب؛ ومن مسألة الاعتراف بإسرائيل وحلّ الدولتين ومسائل أخرى، استرعى حديث د. الزهار انتباه الرئيس كارتر، الذي ظل يستمع بصمت مع مداخلات بسيطة للاستيضاح من حين لآخر.
كان اللقاء واحداً من بين أفضل الجلسات التي شاهدت فيها د. الزهار يعرض ويحاور ويناقش بثقة وبمنطق الحجة البالغة وفوداً دولية.. نعم؛ كانت نقاشاته تعتمد على أرضية من المبادئ والقيم والمواقف الإنسانية والأخلاق، وهي قيمة ربما لا تروق لحوارات أهل السياسة، إلا أنها كانت ركيزة لا تغيب في أي حوار مع د. الزهار.
المشهد الثاني المهم الذي أتيح لي أن أكون أحد جلسائه، هو تلك اللقاءات التي جمعت د. الزهار مع الوسيط البريطاني أوليفر ماك تيرنن، للتفاوض حول ملف شاليط أو صفقة تبادل الأسرى، والتي استمر د. الزهار في إدارتها أكثر من ثلاث سنوات كان هو أحد أهم مهندسيها، واستطاع بذكائه ومهارته التفاوضية أن يوصل المفاوضات إلى النقطة التي جعلت استكمال الصفقة مسألة وقت، وتابع الشهيد أحمد الجعبري (رحمه الله) إتمام تفاصيل الصفقة بوساطة مصرية.
إنَّ د. محمود الزهار مع كلِّ ما تميز به من ملكات في مجالات الفكر والسياسة والأدب وعشق البندقية، إلا أنه إنسان -مع كلِّ وداعته- تظهر عليه أحياناً بعض مظاهر الحدّة والغضب، وخاصة إذا مُسَّت المبادئ التي استقى أصولها من فهمه الواسع للقرآن الكريم أو تعرض أحد -في سيلق غير وطني- لثوابت القضية الفلسطينية.
في الحقيقة، إن د. الزهار يتمتع بمهارات علمية ومعرفية أهلته للإبداع في أكثر من مجال، وإذا أردنا أن نتحدث عن "مسك الختام" فيما أبدعه قلم د. الزهار، فيكفينا هنا الإشارة إلى عمله الموسوعي "التيسير في فهم التفسير"، وهو إضافة معرفية إلى علوم القرآن.