فلسطين أون لاين

"عَنْكَبُوتٌ ضَخْمٌ تحتَ سَقْفِ بَيْتِي"

البعض يعدُّ وجود شباك العناكب داخل البيوت عنواناً لإهمال صاحبة البيت للنظافة.. وابنتي الوسطى تكره العناكب، عيناها دائماً تتجهان ناحية السقف في كل مكان تعبره، بحثاً عن شبكة عنكبوت تعلق هنا أو هنا.. وما إن تجد ضالتها المنشودة، حتى تقوم مثل رادار بعمل مسح سريع للشبكة بعينيها. أحياناً تكون الشبكة مجرد خيوط واهنة فارغة ليس إلا، وأحياناً أخرى يتعلق بها عنكبوت مسكين يجوس خلال دياره، ربما يكون باحثاً عن فريسة ضلت طريقها وعلقت بشباكه.

وما إن ترى ابنتي العنكبوت حتى تصرخ ملتاعة: "ماما.. هنا عنكبوت ضخم في زاوية الغرفة.. ضخم جداً.. تعالي وانظري".. وطبعاً كل العناكب ضخمة من وجهة نظرها، أو معظمها على أقل تقدير ضخم جداً، فالسيقان طويلة رفيعة ترتفع لمستوى أعلى من الجسد الرمادي وتحيط بجوانبه، وطريقة زحفه السريعة على الجدران، وتأرجحه في الهواء على الخيوط الواهنة، توهم الناظر أن هذا المخلوق ضخم فتاك، يحمل في جنباته السم الزعاف متربصاً ببني البشر.

ولأني أعرف تماماً الطبيعة الهشة لهذه الطفلة المدللة، أحاول التملص من طلبها دائماً وأبذل ما بوسعي لإقناعها أن العنكبوت بعيد عنها ولن يؤذيها، بل إنه سيبتعد عنها حفاظاً على بقائه.. ولكن تحت إصرارها، وإلحاحها، وصراخها أُضطر لأن أهرع لأنقذها من هذا العدو الغاشم المُفترض. أحمل سلاحي الفتاك، مكنسة طويلة اليد، أتسلح بها وأحثُّ الخُطى إلى الغرفة.. أزيل الشباك بضربة واحدة أو ضربتين، ومعها يسقط العنكبوت أرضاً، وهنا يرتفع الصراخ رعباً، ما يدفعني إلى تناول الحذاء (أجلكم الله)، وبضربة أخرى ليس إلا، تكون المعركة قد حُسمت لصالح البشرية جمعاء.

ورغم أن هذا السيناريو يتكرر كثيراً فإنني أكرهه تماماً، ولا أمارسه إلا تحت ضغط من هذه الطفلة كثيرة التذمر والتوجس، التي أتمنى أن تقتنع يوماً أن تعيش تحت الأسقف براحة وسلام، وتترك هذه المخلوقات أيضاً تعيش كذلك تحت السقف ذاته؛ فالعناكب المنزلية لا تُشكِّل خطراً على الساكنين، بل إن وجودها مهم جداً للتخلص من حشرات تداهم البيوت وتشكِّل إزعاجاً أو حتى تحمل خطراً محتملاً داخلها.

العناكب أعداء طبيعيون للبعوض اللاسع الذي يقض مضاجع النائمين صيفاً، ويمتص دماءهم بكل فجاجة، ولا يكاد يترك الواحد منهم يهنأ بنومة يزيل بها عناء يومه لكثرة ما يزنُّ فوق أذنيه، ويلسعه بحدة في أي مكان يظهر خارج الفراش من جلده، هذا إن لم تخترق لسعاته الأغطية.. ولا يكاد ينقذه من هذا القدر المحتوم شيء، خاصة إن كان في البيت نوافذ مفتوحة لا يغطِّيها شبك ذو فتحات صغيرة تستعصي على البعوض أن يمرَّ عبرها، أو إن تُركت الأبواب مفتوحة نهاراً.

ناهيك عن حشرات أخرى مزعجة ومؤذية تلج البيوت ولا نُلقي لها بالاً لأنها لا تمتلك سيقاناً طويلة مرعبة وتبرع في التخفي عن الأعين، ولا تجيد صنع الشباك التي تتنقل عبرها، عثّ الفراش، والذباب، والبراغيث... والقائمة تطول.

العناكب تشاركنا سكن بيوتنا، ولكنها لا تشكِّل خطراً علينا، بل على العكس، هي تدفع أجرة مشاطرتنا السكن، كما أوردت سابقاً حين تصطاد هذه الحشرات الضارة التي تعلق بشباكها وتلتهمها بصمت.

أفلام الكرتون والأفلام السينمائية شوهت بشكل كبير هذه المخلوقات المهمة للحفاظ على التوازن البيئي، وأوهمت مشاهديها أن العناكب ضارة سامة، يمكن للدغاتها قتل الشخص أو تحويله إلى إنسان عنكبوت، جسده يشبه البشر ولكن بسمات عنكبوتية محضة.. وأكدت هذه الفكرة شركات صناعة الملابس التي جعلت من اتداء ملابس الرجل العنكبوت السينمائي الذي يمكنه التعلق بأي شيء ويمتلك لياقة وليونة خارقة، حلم غالبية أطفال العالم.

فهل نعيش في بيوتنا بسكينة وأمان ونترك هذه المخلوقات الصغيرة تعيش كذلك أيضاً؟ أم أن أنانية الإنسان تأبى عليه أن يتقاسم هذا الكوكب مع غيره من المخلوقات الأخرى حتى وإن كانت عناكب صغيرة؟