فلسطين أون لاين

​"عدوان" يعيش حياة "البدو الرُّحل" بين أنياب "طلَّاقة" الرصاص

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

حينما تبدأ الشمس بالرحيل وسحب أشعتها تدريجيًّا عن منطقة خزاعة شرق محافظة خان يونس، يطلق الراعي الستيني أبو جهاد عدوان العنان لخرافه للخروج بين الحشائش والأشجار التي ما إن يفتح بوابة الحظيرة لها حتى تبدأ بالتسلل واحدة خلف الأخرى متجهة إلى طريقها بشكل متناسق، يهرب بهذه الحياة بعيدًا عن العالم بين خرافه، يعيش نسقًا من البساطة والرضا، حياة معزولة عن جميع مظاهر التمدن.

ينصب عدوان أوتاد خيمته القماشية على مقربة من السياج الفاصل شرق خزاعة تكاد تكون الخيمة الوحيدة بين آلاف الدونمات الزراعية، لا تبعد سوى مئات الأمتار عن أقرب الأبنية السكنية المجاورة له، وبنفس المسافة أمامه برج "طلَّاقة الرصاص" الإسرائيلي الأتوماتيكي.

بحياة تجمع ما بين ازدواجية التشبث بعادات متوارثة عن الأجداد، وبين تحدي قسوة الظروف والاحتلال، يعيش عدوان وطفله سامي (11 عامًا) حياة مؤقتة يسميها البدو "تعذيبًا" أو أشبه بحياة البدو "الرحل".

بين أنياب الموت يقترب هذا الراعي بخرافه إلى أخطر نقطة من السياج، كثيرًا ما يتعرض هو وتلك الخراف لإطلاق نار على مقربة منه من قبل قوات الاحتلال، لكن أجمل اللحظات الممتعة بالنسبة له وهو يرى خرافه قد شعبت.

الساعة الثانية ظهرًا، وصلنا الحدود الشرقية لخان يونس التي كانت خالية من كل شيء سوى من غبار الأتربة المنبعثة من آليات جيش الاحتلال، هربنا من حر قرص الشمس المتوهج إلى داخل خيمة عدوان التي تستظل بشجرة زيتون كبيرة، تجمع هذه الخيمة كل أشكال الحياة البدوية البسيطة.

يجلس عدوان ضامًّا قدميه بشكل مقص، على فرشة تحتها أرضية زرقاء من النايلون، بجانبه موقد نار من الحطب، وأنبوبة غاز، وبعض الزاد مما ينتجه المزارعون، وزجاجات بلاستيكية من المياه، في خيمة يأتيك الهواء من جانبيها المفتوحين أو الرصاص من الجهة الشرقية فلا ضمان عند الاحتلال.

لا تبعد مزرعة خرافه سوى أمتار عن خيمته، محاطة بسياج حديدي مسقوفة بألواح "الزينكو" لحمايتها من الحرارة.

الاستفتاح اليومي

أشعل سيجارة بعد أن وضعها بفمه قبل أن ينفث دخانها متجهًا بنظره نحو البرج العسكري الإسرائيلي الذي يطلق الرصاص وكان مقابلا للخيمة، قائلا وهو يشير بيده: "في صباح اليوم حينما كنت أرعى الأغنام قاموا بإطلاق النار حولنا وغادرت المنطقة".

ألا تشعر بالخوف في هذا المكان بمفردك؟ يجيب بعد أن وضع سيجارته جانبا: "بالتأكيد، المكان خطر وهذا شريط حدودي فشيء طبيعي أن أخاف".

"وقت ما يريد الاحتلال فإنه يطلق الرصاص" بهذا اختصر ما يعيشه.

عدوان رجل ستيني، لكنك حين تراه تعطيه سنًّا أصغر من عمره بعشر سنوات أخريات، وإن كانت لحيته يغزو نصفها الشعر الأبيض فإن شعر رأسه ما زال أسود اللون، زارت ملامحه بعض التجاعيد التي تروي رحلة عمره وشقائه، أكلت أشعة الشمس من لون بشرته حتى مالت إلى اللون الداكن.

مربي الخراف عدوان متعلق بماشيته إلى أبعد حد، وإن عدنا إلى أصله وفصله، فهو لاجئ من بدو بئر "السبع" هجرته عائلته عام 1948م، وسكنت في رفح، وهو يأتي إلى شرق خان يونس، في مواسم انتهاء حصاد القمح والشعير ليرعى أغنامه مما تركه مزارعو القمح والشعير هنا، فهذا التواجد المؤقت يسميه البدو "تعذيبًا"، وهو تواجد مؤقت لبضعة أشهر قبل الرحيل من المنطقة، يقوم البدو من خلالها بتربية ورعي الخراف والماشية وتكاثرها وبيع مواليدها بعدما تكبر، والاستفادة من لحومها وحليبها والإبقاء على الأمهات.

"تعذيب" واستضافة

وقال بلهجة بدوية: "الناس هنا يستقبلوننا ويسمحون لنا بنصب خيمتي وإقامة عريش تأوي خرافي، وعندما يقترب موسم زراعة القمح في نوفمبر/ تشرين الثاني أبدأ قبلها بشهر بالرحيل والعودة إلى منزلي فأمكث هناك أربعة أشهر بعيدًا عن أبنائي الستة".

خلال حديثنا مع العم عدوان، كان طفله سامي يحضرنا وبعض فتية المزارعين، الذين أرشدونا إليه، يحاول نقل تراثه البدوي لطفله كما نقلها لإخوته.

يعاود النظر إلى طلاقة الرصاص الأوتوماتيكية من فتحة الخيمة الشرقية قائلا: "حياتي في خطر هنا؛ فإطلاق الرصاص يتم عشوائيًّا دون هدف، وفي وقت الليل نسمع أصوات الرصاص ولا يوجد شيء يحمينا نلتحف هنا السماء ونتوكل على الله".

قام عدوان لتفقد خرافه، يبتسم بعد أن أمعن النظر فيها: "أحب رؤيتهم، أجمل المناظر بالنسبة لي أراها منتشرة أمامي بهذه الأماكن الواسعة، لولا اليهود فإن رعاية الأغنام متعة فهم مصدر رزقنا (...) لدي الآن 25 رأسًا من الخراف بعد أن قتل الاحتلال ثلاثة منهم بإطلاق الرصاص عليهم قبل أشهر".

غادرنا العم "عدوان" ورأيناه بعد ثلاث ساعات ونحن نجري مقابلات مع المزارعين يسير بقطيع خرافه قرب السياج الفاصل، حياة يومية محفوفة بالمخاطر مجبر على خوضها وتحدي الاحتلال والظروف، ونسيان العالم بين هذه الخراف، غير آبه بالرصاص الإسرائيلي الذي يطلق عليه كل يوم، الجميل أن "عدوان" نجح في إيجاد لغة مشتركة بينه وبين خرافه التي أصبحت تفهمه وتنفذ تعليماته، تفهم حركاته، وهمهمته كذلك "إرررر" الصوت الذي كنت أسمعه ويتناقله الهواء.