فلسطين أون لاين

​أنطق الصخور بتاريخ البشرية

إبراهيم أبا زيد..نحّاتٌ سوريٌ حال النزوح دون إنهاء أضخم أعماله

...
صورة أرشيفية للنحات السوري إبراهيم أبا زيد
غزة - هدى الدلو

أعلن مدرسه في الصف الأول الابتدائي عن نية المدرسة إقامة معرض مدرسي لعرض الأعمال المميزة للطلبة، وسيُغلَق باب المشاركة بعد يومين فقط، أسرع الطالب بكل حماس وشغف طفولي لإنتاج المزيد من المنحوتات لتكون حاضرة في المعرض، فكانت بمثابة "صدمة" لزواره.

في يوم الافتتاح، أخرج الطفل رأسه بصعوبة من بين الطلبة المحتشدين للاستماع لتعليقات الزوار عند كل زاوية في المعرض، فلاحظ بعينيه الصغيرتين بريق أعينهم لدهشتهم من قطعه المنحوتة بعناية فائقة، متسائلين فيما بينهم عن صاحب هذه الأعمال، ومنتظرين أن يطل عليهم طالب في نهاية المرحلة الابتدائية، على الأقل، ولكن حدقات أعينهم اتسعت عندما نادى عليه مربي فصله "إبراهيم.. إبراهيم".. حينها خرج من بين الطلبة متورد الوجنتين، وشعر أن دقات قلبه المندفعة واحدة تلو الأخرى سيسمعها من يقف بجواره، فلأول مرة يكون في مثل هذا الموقف، سمع همسات الزوار التي تنمّ عن عدم تصديقهم بأن المنحوتات هي من صنع أنامله الصغيرة: "لعل أحد أفراد عائلته صنعها له"، وعلى إثر ما سمعه منهم عُقد لسانه، ولم يتمكن من الدفاع عن موهبته بالكلمات، بل انسحب من بينهم بخفة، وبمصروفه اليومي، الذي كان ينتظر جرس "الفسحة" المدرسية ليشتري فيه الحلوى كباقي زملائه، اشترى "الصلصال"، وأمام ناظريهم أنتج مجسّمًا ليثبت لهم أن كل ما هو أمامهم هو من صنيعه..

موهبة "جينية"

في الهواء الطلق، وحيث سنابل القمح المتراقصة في آخر مشارف محافظة "درعا" السورية، اتخذ النحات إبراهيم أبا زيد (43 عامًا) من ذلك المكان مشغلًا له، فهناك الهدوء والبعد عن ضجيج الحياة.

منذ نعومة أظافره، وتحديدا عندما كان بعمر الأربع سنوات، بدأت الخشونة تظهر على يدي الفنان السوري لارتباطه بفن النحت، ففي ذلك الوقت، كانت طريقة لعبه مختلفة تماما عن أقرانه، فبدلًا من كرة القدم والدمى، اعتاد أن يحمل المسمار والسكين وينحت على الصلصال، أو حتى الصابون، هذه الرغبة الملحة كانت تضطره للتسلل دون أن تراه والدته لأخذ قطع الصابون ليشكل منها المنحوتات، كما أنه لم يكن يكترث لتأنيبها الدائم له لتلطخ ملابسه بالصلصال بعد انتهائه من النحت عليه.

هذا التعلق والارتباط الغامض دون سبب وراثي، أو دافع واضح، جعل الخوف والقلق يتسللا لقلبي والديه، خوفًا على مستقبله، لأنه مختلف عن غيره من الأطفال، وبعيد عنه ليمارس هوايته.

ورغم الإحباط الذي تعرّض له، ونظرات بعض المشاهدين لأعماله وهم يهزّون رؤوسهم في إشارة لعدم تصديقهم أن ما يرونه من صنع يديه، إلا أنه أكمل مسيره دون الالتفات لأحد.

"هاوي نحت منذ صغري، فلعبتي المفضلة كانت تشكيل مجسمات صغيرة من الطين، وعندما دخلت الصف الأول الابتدائي توجهت للنحت على الحجر الكلسي الطري، لأشارك بالمنحوتات عليه في معارض مدرسية" وفق قول أبا زيد في حديثه لـ"فلسطين".

في الثانية عشرة من عمره، توجه إلى النحت على الحجر البازلتي لما يتمتع به من صفات تميزه عن الأنواع الأخرى من الحجارة، ولقوته وصلابته وديمومته، إلى جانب كثرته في درعا، وسهولة الحصول عليه، ومع بداية تحوله في النحت من الصابون والصلصال والحجر الكلسي إلى استخدامه للحجر البازلتي القاسي، تغيرت أدواته من المسمار والسكين، إلى المطرقة والإزميل.

لم يتلقَ أبا زيد أي نوع من التعليم فيما يخص مجال النحت، وكأن أسرار النحت ولدت معه، أو وجدت بالفطرة، والشهادة العلمية الأخيرة التي حصل عليها كانت للصف السادس الابتدائي، وبعد هذه المرحلة الدراسية ترك سلك التعليم لعدم رغبته بالاستمرار فيه، وتوجه للعمل في "الصناعية" ليتعلم ما يكسب منه رزقه، ولينفق على نفسه، من خلال إصلاح الآلات الزراعية.

وبعد عودته من الورشة متعبًا، لم يكن يترك الفرصة في الترويح عن نفسه في إنتاج بعض المنحوتات، فيختفي عن أنظار من حوله، ويجلس مختليًا بذلك الحجر الأصم ليستنطقه حتى يحوّله إلى منحوتة تحمل رسالة، أو تعبر عما في نفسه، وكان ينتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر ليكمل فيه العمل.

وقال: "كل المنحوتات التي أنجزتها حتى اليوم، والتي هي أكثر من 400 عمل نحتي، موجودة في بيتي، كما أنها مختلفة الأحجام والأوزان، منها ما يزن 100 كيلو جرام، ومنها ما هو أقل أو أكثر، وأصغر منحوتة هي بحجم حبة العدس لرجل يحمل كتابًا، استخدمتُ لنحتها حجر (الغريتيان)".

منحوتات ضخمة

انتقل من النحت وحيدًا للعمل أمام الناس، بعدما أصبح ينتج منحوتات ضخمة، فعلى قارعة الطريق، وضع صخرته الضخمة التي تزن 117 طنًا، وتجمع حوله المارة، منهم من يتابع حركة يديه مع صوت المطرقة بفضول، وآخرون اتهموه بالجنون فبادلهم بابتسامة ساخرة.

وأوضح: "الناس لا يعرفون ما يوجد في داخل الصخرة، لذا لا يغضبني ما أسمعه منهم، فالنحت عبارة عن رؤيتك ونظرتك لما هو بداخل الكتلة التي تريد نحتها".

وبشعور فريد تمالكه، صمم عملًا منحوتا أسماه "قصص الأنبياء" أو "قصة الخلق من آدم عليه السلام حتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم"، وشكّله على صخرة تزن ستة أطنان، حفر عليها قصة الخليقة مع التراث الإنساني، لتظهر بصورة خيالية، ومما نحته عليها الكعبة المشرفة، وسفينة نوح عليه السلام وهي محملة بالصناديق والأشخاص، وقوم ثمود، والبتراء، والأهرامات، ومسجد قبة الصخرة، ومقام سيدنا زكريا، ومحراب السيدة مريم.

وبيّن أبا زيد: "أردت من هذه المنحوتات جمع الحضارات في صخرة واحدة، منذ نزول آدم عليه السلام، وكيف توسعت البشرية على هذا الكوكب، واستغرق هذا العمل خمسة أعوام من النحت".

وفي لحظة صفاء مع النفس، خطر بباله أن يجمع الحضارات التي مرّت في مختلف العصور في صخرة واحدة ضخمة، وبعد بحث طويل، عثر على صخرة كبيرة يصل وزنها إلى 117 طنا في "وادي الزيدي"، وواجهته مشكلة في نقلها وتحريكها، ولكنه فعل على حسابه الشخصي، ليضعها أمام محله التجاري لتصليح الآلات الزراعية.

وقال عنها: "ستكون منحوتتي الأكبر، وأسميتها (رسالة حب وسلام سوريا للعالم)، نحتُّ عليها لمدة ست سنوات، ولكنها لم تنتهِ بعد، وأُجبرت على التوقف عن العمل فيها بسبب ما يدور من أحداث في سوريا".

بالمطرقة والإزميل اللذين لا يفارقانه أينما ذهب، ستجسّد هذه الصخرة الحضارات القديمة، وبمعالمها الدقيقة، فجزء منها يظهر المسلة الفرعونية، وآخر عليه السفينة الفينيقية، وعليها أيضًا معبد هندي، وتحمل معالم أقدم مدينة كنعانية لمدينة أريحا، وسور الصين العظيم، وغيرها من الحضارات التي سيعمل النحات على إكمالها بعد عودته إلى منزله الذي نزح منه بفعل الأوضاع السورية الحالية.

وأوضح: "من المقرر أن أنحت صورًا رمزية لجميع حضارات العالم، والتي تعبر عن البشرية من بدايتها حتى يومنا هذا، هذه الفكرة الغريبة تحتاج إلى المزيد من العمل والجهد المتواصل، ولكنها ليست بعيدة المنال"، مبينا: "أحاول أن أقطع الطريق على علماء التاريخ الذين يحاولون أن يؤكدوا نظرية صراع الحضارات، لأثبت لهم أن جميع الحضارات تشكل بعدًا إنسانيًا متكاملًا لا ينفصل، وذلك من خلال مواصلة العمل في النحت لباقي الحضارات البيزنطية واليونانية والرومانية، وحضارة الأزتك في قارة أمريكا الجنوبية، والحضارة الأندلسية".

وأشار أبا زيد إلى أنه يأمل من خلال هذا العمل أن يدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بحيث تكون منحوتته أكبر عمل نحتي من الصخر.

ويستلهم أبا زيد أفكاره في العمل من قصص القرآن الكريم، والتاريخ العالمي والإسلامي والعربي، عدا عن خياله الواسع الذي يسعفه في كثير من الأحيان، كما تأتيه أفكار لأعمال نحتية أثناء العمل في الكتلة الصخرية، فيعيش الفكرة، ولكنه قد يبدل بعضها أو يضيف عليها تفاصيل أخرى.

التعايش مع المنحوتة

"وحين أنحت، أتعايش مع المنحوتة جسديًا، ونفسيًا، وأكون معها بكل عقلي وتفكيري، وعندما أنتهي من العمل بها، وعندما يرى الناس أعمالي وتحفي الفنية، أشعر أنني أقدم أكبر إنجاز"، هذا ما قاله عن مشاعره أثناء العمل وبعده.

ولكن ما هو سبب النفس الطويل الذي يجعل أبا زيد يعمل في نحت القطعة الواحدة لعدة سنوات؟، أجاب باختصار: "السبب هو أن الله رزقني هذه الموهبة، وألهمني الصبر والنفس الطويل".

ويأمل أن تجد، هذه المنحوتات التي أخذت منه وقته وطاقته، اهتماما من الآخرين، فهو لا يمارس هوايته ليستفيد منها، إنما لتكون تحفًا فنية، ولتحمل رسالة للناس عند مشاهدتها، وهذا ما دفعه إلى أن يتخذ من الشارع معرضًا لأعماله، حيث يستطيع أي شخص أن يشاهد ما نقشته مطرقته مع الإزميل.

وينتظر أبا زيد أن تستقر الأوضاع في سوريا ليعود إلى بلاده ويستأنف فيها عمله، وليقيم معرضًا يضم كل أعماله.

وحينما كانت فلسطين عاصمة الثقافة العربية في عام 2009، كان أبا زيد قد شارك بعمل نحتي اسمه "كسوف الشمس" يتحدث عن أرض فلسطين.