فلسطين أون لاين

​"رصاصة إسرائيلية" تقتل حلم أصغر مسعف بمسيرات العودة

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

قرب السياج الفاصل شرق خان يونس؛ هناك رصاصة إسرائيلية قتلت حلم الطفل الفلسطيني ناصر مصبح "12 عامًا"، بأن يصبح ممرضًا أو طبيبًا، كان ناصر أصغر مسعف في مسيرات العودة، يتنقل في الصفوف الأمامية للمتظاهرين، يتجاوز إطارات السيارات المشتعلة، ويرش "المحلول الملحي" على المصابين، لكنه لم يدرك أنه سيكون هدفًا متنقلًا لقناصة الاحتلال، وأن حلمه لن يكتمل.

استعداد مبكر

الجمعة الثامنة والعشرون من أيلول الذي يوشك على طي أيامه الأخيرة، أطلت الشمس بخيوطها الذهبية، بدا كل شيء هادئًا في بيت عائلة مصبح بمنطقة عبسان الكبيرة شرق خان يونس، كان الطفل ناصر ينتظر على أحر من الجمر يريد مرور الوقت بسرعة والحصول على إذن والده بالذهاب لمسيرة العودة؛ يحدث شقيقته المسعفة دعاء مصبح "18 عامًا".

- روحي احكي لبابا بدنا نروح على السلك نسعف المصابين.

لبت دعاء طلب شقيقها وصعِدت الطابق الثاني وبدأت المفاوضات منتهية بموافقة والدها ولكنه اشترط أن تكون هذه المرة الأولى والأخيرة التي يذهب فيها ناصر، لا تنسى دعاء -وهي تسكب الحزن بين كلماتها- تلك اللحظة: "شعر ناصر بسعادة كبيرة بعد موافقة والدي على اصطحابه، ونزل من الطابق الرابع إلى أسفل البيت بسرعة من شدة سعادته يريد إدراك المسيرات".

كعادته جهز ناصر حقيبتي شقيقتيه الطبيتين دعاء وإسلام، الأولى تدرس إعلام وعلاقات عامة وحاصة على دورات في الإسعافات الأولية والتمريض، والثانية تدرس "قبالة"، والاثنتان متطوعتان في إسعاف المصابين شرق خان يونس، خلال الطريق أهدى ناصر شقيقته دعاء "سوارًا" وقال لها: "سأحضر لك غدًا اثنتين عندما أرجع من المدرسة"، لم يدركا أنها ستكون آخر ذكرى بينهما.

وصلت دعاء وناصر وإسلام ميدان العودة قرب السياج الفاصل.. قنابل غاز كثيف، رصاص، إصابات، الجماهير تندفع ككتلة بشرية واحدة، كان يومًا صعبًا، تفرق الأشقاء يحملون المحاليل الملحية لرشها على المتظاهرين المصابين بقنابل الغاز، وتقديم الإسعافات الأولية لهم.

كان المسعف الصغير لا يحمل سوى محلول طبيّ، يحاول به إسعاف المصابين، يمارس حلمه ويستعد لأن يكون طبيبًا أو ممرضًا مستقبليًّا، فهو في المدرسة كذلك يرتدي زي "ملائكة الرحمة"، ولا يدرك هذا الفتى أنه سيكون هدفًا متنقلًا لقناصة الاحتلال، تنتهك طفولته قبل انتهاكها للقوانين الدولية التي تحمي المسعفين دون التعرض لأذى خلال تقديمهم للعلاج للمصابين.

بدأت حكاية ناصر مع الإسعاف والتمريض قبل عدة شهور، في بداية المسيرات كان يشارك الشبان في إشعال الإطارات، لكن عندما انخرطت والدته وشقيقاته في دورة إسعافات أولية، ذهب معهم وحضر كل أيام الدورة لكنه لم يعطَ شهادة كونه طفلًا.

لكن الطفولة كبرت في داخل ناصر، ما قام به خلال المسيرات كان عملًا بطوليًّا بالنسبة له، كان يتقدم الصفوف الأولى لإسعاف المصابين، كان دائمًا قريبًا من الموت والاستهداف، بدت دعاء متماسكة لكن بين نبرة صوتها كان أنين الجرح واضحًا لا تستطيع إخفاءه، وكيف تستطيع ذلك عندما يكون الفراق مع شقيقها؟ "كان زملائي المسعفون عندما يشاهدونه يسعف المصابين في الأمام، ينهرون عليه، ويطلبون منه الرجوع للخلف، لكن دون جدوى، لا أحد يستطيع منعه، كان يشعر بعظم الواجب الإنساني الذي يقدمه".

مجهول الهوية

عقارب الساعة تشير إلى الخامسة والنصف عصرًا، دعاء منشغلة في إسعاف المصابين، "حاولنا إسعاف طفل مصاب برأسه لكن حالته خطرة.. الآن هو في النقطة الطبية"؛ كان الكلام موجهًا لدعاء من إحدى زميلاتها، استفسرت عن اسم عائلته فأخبرت خطأ في البداية أنه من عائلة "زعرب"، تفتح الجرح مرة أخرى، "واصلت عملي لكنني قرب ساعات المغرب بدأت أتفقده، أتجول بين المشاركين دون أن أجده".

انصبت أكثر توقعات دعاء أن يكون شقيقها يجلس في الخيام مع الشبان الذين يشعلون الإطارات، لكن دقات الخوف والاضطراب بدأت بالاشتعال، والدتها تتصل "تأخرتم، أحضري ناصر وعودوا للمنزل"، تذكرت شرط والدها، بدأت تركض تسأل رجال الأمن تارة لعلهم يساعدونها، ثم النقطة الطبية، والمسعفين، لكن دون فائدة.

لم تعلم دعاء أن شقيقها أصيب بطلق ناري خلال تقديمه الإسعافات بالرأس، واستشهد في إثره، لم تدرك أنه هو الطفل الذي حدثتها عنه زميلتها، ظل مجهول الهوية حتى العشاء، تقول بنبرة حزن: "حينما تذكرت كلام زميلتي تأكدت من الاسم"، لتضع النقطة الأخيرة في حيرتها، وتكون على موعدٍ هي وعائلتها مع جرح نازف، طفل في الثانية عشر ربيعًا اخترقت رصاصة إسرائيلية جسده الصغير، سقط على الأرض وبيده المحلول الملحي الذي لم يشفع له أمام تلك الرصاصة التي لم ترحم حتى "ملائكة الرحمة".

سرد الحكاية لم يتوقف، لا تنسى دعاء التي فتحت شريط الذكريات، أحلام شقيقها بأنه يريد أن يصبح ممرضًا، لا تنسى لحظة عودتهم من مسيرات العودة وكان يحصي لها ناصر عدد الحالات التي أسعفها، هو حافظ للقرآن الكريم يدرس في الصف السادس بمدرسة المهاجرين الشرعية بخان يونس، من المتفوقين فيها، "كان كأي طفل يريد أن يعيش حياة كريمة بعيدة عن جرائم الاحتلال، لم يكن يمسك لا قنبلة ولا رصاصة، كل ما كان بيده هو محلول ملحي.. لماذا قتله جنود الاحتلال"؟ سؤال تبحث دعاء عن إجابته في ضمير كل إنسان.