حين البدء بكتابة هذه المقالة، كان الاحتلال قد اغتال في قطاع غزة، قصفا، عنصرين من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، وذلك بالرغم من وجود قيادة المكتب التنفيذي للحركة في القطاع. الاجتماع يضم قيادات للضفة مبعدة إلى الخارج، وأخرى من الخارج، وذلك بوساطة مصرية، بهدف البحث في مقترحات الهدنة المقدّمة لحركة حماس، ولا سيما من المصريين.
اتسم شهر تموز/ يوليو الماضي بمواجهات خطرة بين الطرفين (حماس ومعها بقية فصائل المقاومة، والاحتلال). الانزلاق إلى الحرب كان احتمالاً قائما في كل لحظة، وهذه هي الحال منذ إطلاق الجماهير الفلسطينية في غزة لمسيرة العود منذ 30 آذار/ مارس الماضي وحتى اليوم. وعامّة الأمر، أن قطاع غزّة يعيش، ومنذ العام 2007، حالة من الحصار المتعاظم، والحرب الواقفة على الأبواب، والمواجهات التي يقتطعها شكل آخر من القتال يُسمّى التهدئة!
صحيح أن حماس اقترفت خيارات سياسية أدخلتها في الارتباك القائم ما بين تمسكها بمقولتها التأسيسية واحتفاظها بسلاحها في قطاع غزّة، وبين الاضطرار لمناورات سياسية لا تخلو من خطورة بالغة، وما يتصل بذلك من المسؤولية عن ملايين الجماهير. إذ يعمل الاحتلال على إقناعهم، بالقصف والحصار، بأن سلاح المقاومة صار عبئا خالصا لعجز المقاومة عن استخدامه في سياق استنزافي مفتوح، أو حتى في سياق دفاعي ثابت، إلا أن ما ينبغي قوله، أن حماس، بالرغم من ذلك، كلّه ظلّت حركة مقاومة، على مستوى الفكرة والإعداد دائما، والممارسة حيثما أمكن، ولا ترتبط بأي اتفاقيات مع الاحتلال. ومع كونها حالة سلطوية في قطاع غزّة، إلا أنها لم تصبح جزءا من النظام الإقليمي العربي الرسمي أو الدولي.
في المقابل، تحولت حركة فتح إلى حزب سلطة ترتبط باتفاقيات سياسية وأمنية واقتصادية رسمية مع الاحتلال، وهي في الأساس مشروع إقليمي دولي. ومن هذه الناحية، صارت فتح جزءا من النظام الإقليمي العربي، والنظام والدولي. وبهذا الاعتبار، يمكن فهم بعض مواقفها السياسية المعلنة، في عدائها للثورات العربية أو الحركة الإسلامية. فمن جهة، تتأسس هذه المواقف على الطبيعة الاحتكارية للحركة الرافضة للمنافسة أو المشاركة، ومن جهة أخرى، صار ما يهدد النظام الإقليمي أو الدولي مهددا للحركة ومصالحها، وهنا المأساة بالنسبة لحركة مثّلت فترة طويلة من الزمن العمود الفقري لحركة التحرر الفلسطيني، فزعزعة النظامين الإقليمي والدولي من أهم المرتكزات المطلوبة لزعزعة الوجود الصهيوني!
حينما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، بفصائلها المتعددة والمتنوعة، كان لها مقولة ثورية تجاه النظام العربي، ربما بسبب غلبة النزعة اليسارية على الثورة، ولإدراك الفلسطينيين للدور العربي في سياقه الاستعماري في الجناية عليهم ابتداء واستمرارا، وللتحليل السياسي الصحيح الذي يقرأ النظام الإقليمي العربي في سياقه الاستعماري.
صحيح أن ذلك حمّل الفلسطينيين فوق طاقتهم، وأدخلهم في صدامات مع المحيط العربي، بيد أنّها صدامات كانت حتمية على الأغلب؛ لأنّ أحدا ممن يتحمل المسؤولية عن هزيمتي العامين 48 و67 لا يريد للفلسطينيين أن يقاتلوا انطلاقا من أرضه، ولا حتى استخدام أرضه لمجرد دعم المقاومة في الداخل، بيد أن التحليل الصحيح كان يقضي بالحفاظ على حركة التحرر دون التحول بها إلى جزء من النظام الإقليمي العربي، بمعنى إلى جزء من حالة استعمارية شكّلت تمهيدا لوجود "إسرائيل" ثم ضمانة لاستمرارها!
الذي حصل، أن حركة فتح حوّلت حركة التحرر إلى سلطة في ظل احتلال، ثم هي سلطة صارت جزءا من النظام الإقليمي العربي، وبالتبعية الدولي، ولا يغير من ذلك بعض من المسلكيات الفتحاوية ذات الملامح النضالية في بعض المحطات، فالحكم للغالب على أيّ حال، ولما كانت حماس تنظيما كبيرا يشكّل تهديدا بحجمه وفاعليته، كان ضروريا سحقه أو تحجيمه، كما حاولت السلطة فعلا في بعض المحطات حتى بعد تأسيسها المبكّر، أو إعادة تدويره، وتذويبه داخل الكأس السلطوي، وبالتالي داخل الإرادة الإقليمية والدولية.
يمكن التذرع باختلال موازين القوى والحصار العربي، ويمكن لنا أن نضيف إلى ذلك اهتراء المنظومة الأخلاقية الحاكمة، بذيوع الفساد ومنطق الاستزلام والزبائنية في الحركة الوطنية في علاقاتها الداخلية، والأنانية والفهلوة في إدارة العلاقات الداخلية، أو في الإدارة السياسية للقضية برمتها.
إنّ أي حركة تحرر تأخذ في التخفف من هذه المنظومة الحاكمة؛ سوف تنحاز لخيارات شديدة الضيق والأنانية، كالحفاظ على الحزب، أو القيادة، وهكذا يمكن لنا القول، إن الحفاظ على حركة التحرر في طبيعتها الأصيلة بعيدا عن السلطوية كان أفضل مما جرى لاحقا، حتى لو كان الثمن مدفوعا وبقسوة من القيادة، أو من الحزب. بكلمة أخرى: كان الحزب طريقا إلى فلسطين وليس العكس، بيد أن السلطوية، والصراع على السلطة، قبل إنجاز المشروع التحرري يقود بالضرورة إلى الحال الراهن!
للأسف، توفّرت فرص كافية لتصحيح المسار، مثل هبّة النفق، وانتفاضة الأقصى، وفوز حماس بالانتخابات التشريعية، والحروب على قطاع غزّة، وهبّات القدس المتتالية، وإعلان ترامب بخصوص القدس.. كل ذلك وأكثر، كان فرصة لإعادة تصحيح المسار، والالتحام الوطني مجدّدا على قاعدة التحرر لا على قاعدة السلطة، إلا أن السلطة باتت هي الأساس، لا فلسطين. وعلى هذه القاعدة، لم تزل فتح تتعامل مع حماس، عدوّا لسلطتها، لا شريكا في تحرير فلسطين. وبهذا انعكست مواقع الفرقاء ما بين أعداء وأخوة وشركاء، تماما كأيّ نظام رسميّ عربيّ آخر!
اليوم، وفي سعي حماس لرفع الحصار، سواء بهدنة أم بغيرها، يتناول الموقف الفتحاوي ما يجري، بخطاب المزايدة والمناكفة، بما في ذلك برفع شعار المقاومة ورفض الهدنة. وإذا كان هذا الخطاب المغرق في التناقض الواقعي حاصلا دائما من الأطر الشعبوية في فتح التي لا تشعر بأي تناقض بين المزاودة باسم المقاومة والكفّ عنها فعليّا والانتماء إلى حركة تقود مشروعا سلطويّا مرتبطا باتفاقات مع الاحتلال.. فإنّ استخدامه من الأطر الرسمية العليا مثير في الحقيقة وإن لم يكن مدهشا!
نحن لسنا في حاجة إلى المقارنة بين أحوال الأطر العليا في الحركتين وأوضاع شخوصهما وظروفهم من جهة موقف الاحتلال منهم، بيد أن هذا الخطاب يدلّ على مركزية السلطوية في الوعي الفتحاوي، والتحوّلات في مراتب الأعداء والخصوم والإخوة والشركاء، والتحلل من المنظومة الأخلاقية الضرورية لإدارة العلاقات والمصالح الوطنية في ظلّ المشروع التحرري.. دون أن ينفي ما سبق الكثير مما يمكن قوله في نقد حماس وخياراتها وسياساتها التي ساهمت في دفعها نحو هذه المناورات الضيقة والخطيرة وحمّلتها كلّ تلك الأعباء، بيد أن هذه الحركة مطالبة فعلا اليوم بحلول للجماهير التي تحكمها، وكذلك بالحفاظ على قدر معقول من مكاسبها ومصالحها بقسط يحول دون التفرد الكامل والمطلق لحركة فتح في قيادة القضية الفلسطينية، وهو التفرد الذي قادنا إلى ما نحن فيه اليوم!
تحسن حماس، وهي لا تتفرد في إدارة المسائل الوطنية الكبرى في القطاع، وهي بذلك تُخفّف من المنطق السلطوي وتنزع به نحو المنطق التحرري الضروري، إذ تتشارك مع الفعاليات الوطنية والأهلية جميعها في تنظيم مسيرة العودة، وإدارة غرفة مشتركة للأجنحة المسلحة للفصائل، وتشارك الفصائل في القرار بشأن المبادرات المطروحة بخصوص قطاع غزّة.
هذه الأرضية يمكن البناء عليها، للخروج النهائي من منطق أوسلو والسلطوية الحاكمة للعلاقات الفلسطينية نحو استعادة مشروع تحرري أرقي في أفقه وخطابه من أوسلو أو السلطة أو الدولة. والأمر هنا لا يتعلق بحماس وحدها، بل ببقية شركائها في الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرهما، وإن كان أمام حماس الكثير في مراجعاتها الذاتية، سواء في تطوير أقاليمها الأخرى وخلق نقاط ارتكاز في غير غزّة لدعم ثقلها في غزّة، أو في تحسين المنظومة الإدارية والقيمية الحاكمة لأطرها العاملة وعلاقاتها الحركية.