فلسطين أون لاين

​استشهد والدها وشقيقاها والآن ..زوجها

"ليلى الحية" تجدد موعدها مع آلام الفقدان

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

هناك مواقف تقف عندها الحروف عاجزة عن وصف حال امرأة فلسطينية فقدت والدها وشقيقيها وزوجها، لا شيء أصعب من هذا الفقدان الذي أحاط بالشابة ليلى الحية "26 عاماً" زوجة الشهيد عبادة أسعد فروانة (29 عاماً).

الحية ليست المرأة الفلسطينية الوحيدة التي فقدت أعمدة أسرتها، فحالها حال كثير من النساء الفلسطينيات اللواتي خطف الاحتلال منهن أعز أفراد الأسرة، وهل هناك أغلى وأعز من الأب والأخ والزوج الذين برحيلهم يبقى الجرح يتجدد كل عام، والألم يصبح الساكن الدائم في قلبها.

عبادة الشهيد الذي يعمل في قوات "حماة الثغور" التابعة لكتائب القسام، هو أب لطفلتين، سامية وتبلغ من العمر سنة وعشرة أشهر، وسما التي لم تتجاوز ستة أشهر، استشهد واثنين من رفاقه في كتائب القسام في 25 يوليو الجاري خلال قصف مدفعي إسرائيلي لنقطة رصد تابعة للمقاومة شرق مدينة غزة، في أثناء تأديتهم صلاة المغرب.

في الفراق لا يمكن منع العين من التعبير عن حزنها، وهي تسكب أحزانها، لكن الحاجة أم الشهيد عبادة كانت متماسكة، صابرة على ما أصابها من ألم وهي تروي سيرة ابنها الشهيد.

اليوم الأخير

بدأ عبادة يومه بالذهاب إلى آخر درس في تعليم قيادة السيارة تحضيرًا لاختبار "التست" النهائي الذي كان مقررًا الأسبوع القادم، وهو ينتظر بفارغ الصبر الحصول على رخصة قيادة لكنه حصل على رخصة أخرى وفي مكان آخر، الجميع هنا استغربوا من هدوئه التام على غير عادته، لا يمزح، لا يناغش أحدًا، لا أحد توقع أن يرحل بهذه السرعة، على الرغم من أنه كان دائما يقول لهم خلال آخر أيامه بينهم أنه يتمنى الشهادة بل ويؤكد لهم ذلك.

عقارب الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساءً، قبل مغادرة "عبادة" المنزل كالعادة كانت طفلته سامية تلحق به لتمسك قدميه على عتبات المنزل، لا تريد منه المغادرة، والأخير يقبلها ويمسح برأسها ويودعها، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى أعلن عن قصف مدفعية الاحتلال نقطة للضبط الميداني شرق غزة.

كانت أم عبادة تستعد لأداء صلاة المغرب، قبل أن ينبهها زوجها "هناك شخص من عائلة فروانة مستشهد"، بدأت نبضات قلبها تضطرب خوفًا على حبيب قلبها "ليكون عبادة.. هو بالعمل ولا لأ؟"، ذهب والده أمام المنزل ليجري اتصالات يحاول معرفة مصير نجله.

مكث لحظة ومن ثم عاد لزوجته وأكد لها استشهاد نجلها، لكن هذه المرأة الصابرة وهي داعية ومحفظة بالمساجد استقبلت الألم والجرح بمزيد من الصبر، وقالت لزوجها: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، لكنها ومع ذلك لم تصدق أن ابنها الذي كان قبل ساعة معها قد رحل، لا تصدق أن نساء الحي سارعن للمجيء للمنزل لتعزيتها تستغرب من الحضور وتسألهم: "هل صحيح أن عبادة استشهد وأنتم جئتم للتعزية؟".

أما زوجته ليلى الحية، فتلقت اتصالًا هاتفيًّا من ابن شقيقتها المصاب بمسيرات العودة والذي يرقد بمستشفى الشفاء، ليسألها: "هل عبادة بالدوام؟"، وبعد تأكيدها له أن زوجها في عمله، أغلق الهاتف وقطع الكلام.

تاريخ الألم يجتمع

بدأت الهواجس تسيطر عليها، اتصلت بهاتف زوجها فكان مغلقًا، نار الخوف والقلق اشتعلت في قلبها أكثر، تبحث في الأخبار، تسأل الجميع، أخبروها في البداية أنه مصاب وسيعود للمنزل لتهوين صدمة الفراق، لكن شقيقها في النهاية وضعها أمام الحقيقة وأخبرها برحيل زوجها.

سرد الحكاية لم يتوقف، تسحب بنا زوجته إلى أيام الخطبة الأولى، حينها قال لها عبادة: "إني في النهاية سأكون مصابًا أو أسيرًا أو شهيدًا، وتزوجتك من عائلة شهداء كي تتحملي اليوم الذي سآتي فيه إليك شهيدًا".

فقدت ليلى الحية في 20 مايو/ أيار 2007م سبعة من أفراد عائلتها في قصف لطائرات الاحتلال لديوان عائلة الحية، في مجزرة وعملية اغتيال، استشهد من بينهم والدها عبد المجيد، وعمها نمر، وشقيقها جهاد الحية، كانت حينها تقوم بتقديم أوراق امتحاناتها الدراسية للصف التاسع في المرحلة الإعدادية.

ولم يمرّ عام حتى استشهد شقيقها إياد في 25 يوليو/ تموز 2008م في عملية اغتيال، وبعد عشر سنوات وفي نفس تاريخ استشهاد شقيقها استشهد زوجها، ليتجمع جرح قديم مع جرح جديد.

واللافت هنا أن الشهيد عبادة استشهد وهو يحمل بندقيته التي ظلت ترافقه طيلة (13 عاماً)، ونجا من صاروخ أطلقت طائرة استطلاع إسرائيلية عام 2014 خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، ونجى من قصف استهدف بيت كان يتواجد فيه إبان العدوان. في إحدى المرات أطلقت رشاشات الاحتلال المتواجدة على الحدود الشرقية لمدينة غزة نيرانها بكثافة تجاهه لكنها لم تصبه، ليرتقي شهيدًا في استهداف مدفعية الاحتلال لمجموعة من قوات حماة الثغور، عرف عن عبادة أنه مقدام شجاع لم يتأخر عن تلبية النداء يومًا ما.