في المرتين اللتين هزم فيهما العرب في فلسطين، كان الفرار من الاعتراف بالهزيمة من أجل تجاوزها وليس من أجل التأقلم معها من خلال التسمية، فالنكبة مصطلح مستعار من كوارث الطبيعة وليس من التاريخ، والنكسة مصطلح عضوي مستعار من المعجم الطبي، وكأن العرب قبل يونيو/ حزيران 1967 كانوا في ذروة العافية القومية ثم انتكسوا، وهذا خطأ متعمد يتكرر كثيرا في أدبياتنا السياسية، ومن يطلقون اسم الأزمة على حالات من الاحتقان وانسداد الآفاق لا يدركون أن الأزمة تأتي بعد الانفراج، وهي طارئة وليست ذات جذور ومقدمات، وبالعودة إلى النكبة والنكسة وما بينهــــما من سجالات كان هاجس أصحابها تبرئة الـــذات، ونسبة الهــــزائم المتعــاقبـــة إلى نائب فاعل أو مجهول، فإن ما يحدث الآن هو ما أطلق عليه هيـــغل مكـــر التـــاريخ، على الأقل في ما يتعلق بالمشروع الصهيوني ورهاناته الخاسرة، ففلسطين تستعيد الآن مساحتها على امتداد القارات الخمس من الناحيتين الأخلاقية والسياسية، بعد أن حشرتها اتفاقيات أوسلو في جراب جغرافي خانق، لأنه حذف من تضاريسها المناطق المحتلة عام 1948 بمدنها العريقة وموانئها وسهولها وبحرها أيضا.
وما قاله إدوارد سعيد عن الحقيقة الفيزيائية والوجودية التي أدت إلى فشل الرهان الصهيوني يتجلى الآن ليس فقط بوجود أكثر من أحد عشر مليون فلسطيني على امتدادا العالم، بل بالحضور الحي والفاعل لهؤلاء، بدءا من فلسطين المحتلة، وما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية وبتزامن مع ذكرى احتلال فلسطين، هو بمثابة تصويب تاريخي لذلك الخطأ الذي تحدث عنه أرنولد توينبي بعد زيارته لفلسطين، وقال إن ما يسمى (إسرائيل) الآن هو خطأ تاريخي أدى إلى خطيئة جغرافية، فالمثقفون والناشطون من كل القارات باستثناءات عديمة القيمة ينحازون إلى الضحية بكل ما لديهم من بلاغة، فالرياضي والموسيقي والمغني أو المغنية والمثقف الجدير بهذا اللقب هم الآن فلسطينيون بالاختيار وبمسقط الروح لا مسقط الرأس، والمحاصر الآن ليس الشعب الذي يعيش على أرضه، وليس المواطن الذي تشبث بجذوره، بل المستوطن الطارئ الذي تحول إلى مريب بكل ما يصدر عنه من مواقف، والشعوب لا يمكن اختراعها كما يقول يهودي أعلن العصيان على تعاليم الصهيونية وأساطيرها هو شلومو ساند، والذاكرة أيضا لا تستولد بأنبوب الأيديولوجيا.
وحين نتذكر أسماء مثقفين وفنانين وشعراء كبار من مختلف البلدان، وما كتبوه عن هذه التراجيديا التي دمغت قرنا كاملا بالعار، ندرك أن فلسطين القضية قد عبرت القوميات واللغات، وتأنسنت إلى الحد الذي يؤهلها لأن تكون مضادات حيوية ضد العولمة بمعناها السلبي، وحين يقول الشاعر ريتسوس إنه فلسطيني بإرادته واختياره، أو هارولد بنتر البريطاني بأنه حليف الضحية إلى النهاية، فإن التراجيديا تكون قد تخطت حدود الجغرافيا، وأصبحت لها تضاريس وخطوط طول وعرض لا تقاس بالأميال، بل بمعيار أخلاقي يختبر ما تبقى من ضمير في هذا الكون.
إن صعود القضية الفلسطينية إلى هذا المرتفع الكوني والإنساني بعد مرور أكثر من سبعة عقود على احتلالها ليس فقط بسبب عدالتها المشهود لها، بل أيضا بفضل شعب أصرّ على أن يكون ضحية بليغة تجهر باستحقاقاتها، ولا تلثغ بها، وكان رهان الاحتلال على صمتها وتحولها إلى ضحية خرساء تبحث عمن ينوب عنها حتى في الأنين، ولأن للتاريخ دائما وجهين، فمقابل كل دولة تصاب بنوبة من العمى، هناك دول أخرى تصحو، وتعيد النظر بمواقف أملتها موازين القوة خلال العقود السابقة، والمواقف التي اتخذها أكاديميون غربيون في مقدمتهم بريطانيون ضد الاحتلال، تلتئم مع مواقف أخرى لمثقفين وفنانين وناشطين قرروا مقاطعة دولة عنصرية تقيم جدرانا عازلة ليس فقط على الأرض، بل في العقول التي ترتهن لأيديولوجيا صماء ترى في الآخر المختلف جوييم أو ما يسمى الأغيار، الذين هم على الدوام أعداء محتملون، وكل دولة في هذا العالم تنحاز إلى الضحية إنما تنحاز في الوقت ذاته لسيادتها، ولمنظومة القيم والمفاهيم التي تعيد للعالم توازنه، لأن هذا العالم كما وصفه أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم» دخل إلى الألفية الثالثة ببوصلة معطوبة، والقوة فيه منزوعة العدالة، لهذا فهي مهددة بالتوحش وتجاوز كل المحظورات التي كدحت البشرية آلاف السنين لترسيخها كحد فاصل بين الإنسان والحيوان .
إن هذا الارتفاع الملحوظ في منسوب الوعي بالقضــــية الفلسطينية يحقــــق نبوءة محمود درويش التي أطلقها في «مديح الظـــل العالي» عام 1982 واثناء اجتياح لبنان. فالفلسطيني الآن يحـــاصر حصاره، وصــــدره باب كل الناس، وهـــو اللائذ الذي تحول بفضل التحدي والمناعــــة الوطنية والأخلاقية إلى ملاذ، واللاجئ الذي تحول إلى ملجأ. فلسطين الآن تستعيد مساحتها الجغرافية بعد أن التأمت حيفا مع غزة والخليل، وتستعيد فضاءها التاريخي بعد أن أصبحت الاختــبار الأخلاقي والثقافي العسير لمن مكثوا على قيد آدميتهم في هذا العصر.