أتساءل مذ كنت طفلاً باستغرابٍ تام: أيُّ سببٍ هذا الذي يدفع الإنسان إلى حرق ماله، وصحته؟! سؤال تعززه منذ العام الماضي إحصائية صادمة بالنسبة لي، وللمتخصصين الصحيين، ولمن لديه أدنى معرفة بالضرر اللامتناهي للتدخين، إذ تفيد دائرة التثقيف والتوعية في وزارة الصحة، بأن الفلسطينيين ينفقون سنويا قرابة 490 مليون دولار على التدخين، و1.4 مليون دولار يوميا، و60 ألف دولار كل ساعة.
وفق ذات الدائرة، أظهر المسح الوطني للتدخين لطلبة المدارس ارتفاع معدل التدخين من 14.6% إلى 15.6% وبين الفئات المؤثرة الأخرى بينت الدراسات الوطنية أن معدل ممارسة التدخين بين المدرسين وطلبة كليات الطب المستوى الرابع وطلبة الصيدلة والتمريض هي 31%، 22.7%، 11%، 25% على التوالي.
ورغم صعوبة الظروف الاقتصادية في فلسطين، وعلى نحو خاص في قطاع غزة الذي يتعرض لحصار مشدد منذ 11 سنة، فإن المبلغ الذي ينفقه الفلسطينيون على التدخين قادر على توفير 120 فرصة عمل سنويا براتب شهري قيمته 300 دولار ما يعني القضاء على البطالة.
وربما يمثل ما ورد في كتاب "قوة التفكير" للمفكر في التنمية البشرية الراحل، د. إبراهيم الفقي، إجابة عن تساؤلي بشكل أو بآخر، فهو يقول في معرض حديثه حول الأمر، إن "عادة التدخين نراها منتشرة انتشارا كبيرا في كافة أنحاء العالم، مع العلم أن كل مدخن يعلم تماما أنها من أكثر العادات السلبية ضررا بالإنسان، ويعرف أن المؤسسات الطبية في كافة أنحاء العالم تحذر الناس منها، وأنها تسبب السرطان بأنواعه والجلطة والنسيان والباركنسن والفشل الكلوي وتضعف القوة الجنسية، ويعرف الجميع أنها حرام، لأنها تؤثر على الإنسان صحيا ومعنويا وجنسيا وماديا وتجعله يؤثر في الآخرين ويسبب لهم الأمراض".
وأرى أن الفقي –رحمه الله- كان منطقيا في إرجاعه سبب ذلك لكون التدخين أصبح "عادة مخزنة بعمق في عقله (المدخن) الباطن"، فالمدخن أولى ابتداء انتباهه واهتمامه بفكرة التدخين لأسباب مختلفة، منها اعتقاده أنها وسيلة للهرب من مشكلات معينة، أو طريقة لإثبات الذات، أو غير ذلك، ثم سجّل هذه الفكرة –الخاطئة- في المخ، ثم قرر أن يكرر نفس السلوك وبنفس الأحاسيس، ثم أصبحت عنده الفكرة أقوى فخزنها في العقل بعمق في ملفاته، ثم كرر السلوك المخزن بعمق في العقل الباطن وقد يحدث ذلك شعوريا أو لا شعوريا.
لكن ألا تستحق صحة المدخن، وأمواله، منه التوقف قليلاً لإعادة التفكير مجددا؟ الإجابة المنطقية والصحية: نعم.
بعض المدخنين يقولون إنهم حاولوا التوقف عن التدخين، لكنهم سرعان ما عادوا إليه، والبعض يقولون إنهم يدركون مضار التدخين، لكنهم لا يزالون يمارسونه.
أعتقد أن كلمة السر تتمثل بالقوة الإنسانية الثلاثية: "الخيار، القرار، الإرادة"، لكن لذلك إطار أعمق يُفسره الفقي بقوله، إن عادة التدخين "لن يستطيع الشخص تغييرها بمجرد التفكير في التغيير أو بقوة الإرادة أو بالعالم الخارجي وحده، بل يجب عليه أن يغير معناه الذي كونه في الفكرة الأساسية وبرمجة نفسه على الفكر الجديد وتكرار ذلك أكثر من مرة، وبذلك فهو يمر بنفس الخطوات التي كون بها العادة السلبية لكي يضع مكانها عادة إيجابية".
لماذا لا يربط البعض حل مشكلاته بالتفكير البنّاء؟ ولماذا لا يواجه صعوبة الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالعقل؟ ولماذا لا يثبت ذاته بحُسن المواقف؟ ولماذا لا يقضي أوقات فراغه بما يعود عليه بالنفع؟ ولماذا لا يستثمر أمواله في الخير؟ ولماذا لا يتوقف عن تبرير عادة التدخين السيئة؟ أو التحجج بعدم القدرة على مغادرتها؟
خطوات بسيطة، وتأملات منطقية، يمكن أن تفصل بين المدخن وبين "الهاوية" التي يوجهه التدخين إليها، لكن –يا للأسف- ليس الجميع يدرك ذلك قبل فوات الأوان.