فلسطين أون لاين

أبو عاصف.. الإنسانُ الجامع

انتفضت القلوب بنبأ وفاة الرجل الذي عرفه أهل فلسطين، وتردد اسمه طويلًا في الأخبار: عمر البرغوثي "أبو عاصف"، حتى تسيَّد الشجنُ الموقف، وسالت الدموع كبركانٍ ثائر على أبٍ روحي للفلسطينيين، جمعهم في حياته ووداعه.

كان أبو عاصف جامعًا للفلسطينيين الذين وجدوا في سيرته إلهامًا للإنسان الرافض للتهجير القسري، أو الاستسلام أمام محتل يفرض نفسه بقوة السلاح، لا الحق، ويفتك بشعب أعزل إلا من الإرادة، قتلًا وتدميرًا واستيطانًا وبطشًا، في حين ينظر العالم إليه دون أن يُحرِّك ساكنًا، بل إنه يلقى دعمًا من قوى غربية كبرى، وللأسف عربية.

ماذا كان ينتظر المحتل من "أبو عاصف"؟ الرجلُ أعطى الرد فعلًا لا قولًا فحسب، كلا الخيارين الذين يريدهما هذا المحتل أسقطهما بتصميم فلسطيني أصيل.

وحكاية نضال "أبو عاصف" بدأت مبكرًا، وأَسَره الاحتلالُ للمرة الأولى في أبريل/ نيسان عام 1978 بعد أيام من أسر شقيقه نائل، وابن عمهما فخري، وحكم ثلاثتهم بالسجن المؤبد.

لا التحقيق ولا التعذيب والضرب العنيف وقلع شعر رأسه وجَلْدِه وفقد قدرته على الوقوف والمشي، كان قادرًا على هزيمة رجلٍ قرر أن يرهن نفسه لإحقاق الحق والتمسك بوطنه: فلسطين.

تحمّل أبو عاصف في سبيل ذلك الكثير، ولم يُثنِه سيلٌ من الجرائم الاحتلالية، حتى تلك التي ارتكبها بحق والده صالح في الستينيات من عمره، من تعذيبه أمام عينه لمدة شهر، وحمله على بطانية بعد انهيار جسده، وفقد معظم بصره آنذاك.

مثَّل الرجل في كفاحه كل فلسطيني من بحر البلاد إلى نهرها، وردَّد عند النطق بالحكم الجائر عليه: "ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل".

30 سنة، نصفها تقريبًا في الاعتقال الإداري، كان الاحتلال يزُجُّه خلالها في سجونه لإسكاته، أو لهزيمته، أو لإنهاكه، لكن شيئًا من ذلك لم يتحقق.

واجه أبو عاصف قسوة البعد عن والدته "فرحة" التي اشتدَّ عليها المرض، وحرمها الاحتلال زيارته وشقيقه نائل إلا لمرة واحدة بعد خمس سنوات من المنع، ووصلت حينها على سرير الإسعاف، وتلقيا منها وصيتها الشهيرة: "درهم الشرف أفضل من بيت مال"، في حين كان والدهما قد غادر الدنيا.

ولعله لم ينسَ يومًا أنها هي التي صفعت بقوَّةِ ردّها يومًا ضابطًا مُحتلًّا ناداها: "فرخة"، فكأنما غرست في كبده سهمًا بقولها: "أنا فرخة وخلَّفت ديوك يجعَلْهن ينقْرِن عليكم".

ضمَّد أبو عاصف جراح قلبه عندما استشهد ابنه صالح في ديسمبر/ كانون الأول 2018، وأُسر ابنه عاصم بعد وقت وجيز من اغتيال شقيقه، رافعًا راية الوطن.

ولما هدم الاحتلال منزلي نجليه، جاء الرد سريعا برفع الأذان على أنقاضهما.

"أبو عاصف يمثلني"، هذا ما يتردد في نفسِ كل إنسانٍ حُر، رأى فيه أنموذج كفاح، وسيرة زوجٍ وأبٍ فلسطيني عانى الويلات بسبب الاحتلال، لكنه ما لان يومًا ولا تراجع، لإيمانه بأن حريته ووطنه يستحقان النضال.

جمع أبو عاصف أبناء شعبه حتى في وداعه، فإلى قرية كوبر شمال رام الله حضر المُشيِّعون من كل فج عميق يتسابقون لحمل جثمانه الطاهر على أكُفِّهم، في حين كان كل فلسطيني حاضرًا بقلبه وروحه.

يُنصت كلٌّ منا إلى وصيتك وسيرتك يا أبا عاصف، وأنت تقول لنا: إنك حيٌّ ما دام النضالُ حتى كنسِ الاحتلالِ مستمرًّا.