فلسطين أون لاين

هل أنا إنسان؟!

اصطحبتني أمي إلى بيت جدي، في تسعينيات القرن الماضي، وهو المكان المفضل لها، ولي، لارتباطي الشعوري بكل ما تحبه، لكن في الطريق شاهدت بداية الكابوس.

حينها كنت طفلا، لا أتجاوز بضع سنوات من العمر، أتخيل أن الورود مفروشة لي ولأمي في طريق معبدة، حتى نصل إلى حضن جدي وجدتي، وفجأة ركضت أمي حتى ظننتها تخوض سباقا، لكنها في الواقع كانت تسارع الخطى علها تجنبني سيل الرصاص.

أذكر جيدا مشهد جنود الاحتلال الإسرائيلي في مدينة غزة وهم ينتشرون بعدتهم وعتادهم، يقطعون الطرقات، ويعرقلون السير، ويرهبون المارة، إنهم كانوا يفعلون ذلك بتباه وثقة!

هربنا في وطننا من شارع إلى آخر، حيث لم نجد أمنا، من الغزاة!

انطبع هذا المشهد في وجداني، وذاكرتي، كأنما نقش على حجر، وتراكمت فوقه الآمال والآلام.

أخبرني أبي يوما -وأنا ابنه الوحيد من الذكور بعد ٧ أخوات- عندما غرقنا في الظلام أن الكهرباء غير منتظمة، لا لشيء إلا لأننا في غزة! وما كان "العيب" في غزة، وإنما في الاحتلال الذي يسيطر ظلما على مواردنا ومقدراتنا.

يشهد الشمع، والكاز، الذي أنرت به ما استطعت عتمة الليالي، على ذوبان سنوات من عمري بحثا عن النور!

كنت أكبر، وتكبر أحلامي معي، وتضيق بي أرض الوطن بما رحبت.

كان أبي الذي اشتعل رأسه شيبا، يلاحق الرزق، لعله يقدر على إطعامنا، وتعليمنا، لكن طالما طحنته قسوة الظروف الناجمة عن الاحتلال.

وكم من "حق" بات حلما في طفولتي، من الملبس، للمصروف، لأجرة المواصلات، لثمن لعبة، أو لشراء زي المدرسة!

وكنت أقول في نفسي: "غدا يزول الاحتلال، وأعيش كما كل إنسان في هذا العالم حرا في وطنه"، لدرجة كنت عندها أحسد نفسي، كيف سأعيش حياة لم ينلها أبي، وجدي.

طوت كل سنة الأخرى بمعاناتها، وأحزانها، حتى كبرت وكبر معي الاحتلال وتمدد.

تركت كل هذه الظروف آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية علي في نشأتي، عندما كنت كفراشة تنتظر لحظة الطيران إلى بستان مزهر، لكنها اصطدمت بصحراء.

كابدت حتى أصل إلى لحظة اليقين، التي أعرف فيها مصيري في وطني.

وأخيرا، وكمن زحف فوق رمال ملتهبة في شهر تموز، حتى يصل إلى مبتغاه، تخرجت من الثانوية العامة.. إنها أملي الذي رجوت ألا يسلبه الاحتلال!

سابقت الوقت لألتحق بالجامعة عام ٢٠٠٨ في اختصاص الإعلام، ولأشق طريقي، وأبني نفسي، في بيئة كل ما فيها يدعو إلى اليأس، إلا الإيمان بالحق في الوطن!

قبلها بثلاثة أعوام كان المحتل قد سحب قواته ومستوطنيه من قطاع غزة لكنه أعاد نشرهم بمحاذاة القطاع، وبلغ الحصار ذروته.

إنها المأساة الممتدة، والكارثة العظيمة، والسجن المفتوح.

لكن ذلك ليس سوى فصلا من فصول الاحتلال.

في ٢٠٠٨، وتحديدا في ديسمبر/ كانون الأول، احتضنت كتبي الجامعية، وهممت إلى محاضراتي، متعطشا للعلم، بينما كانت طائرات الاحتلال تتعطش للدماء، وقد شنت عشرات الطائرات الحربية غارات مكثفة طالت البشر والشجر والحجر، بما في ذلك مبنى الجامعة!

لقد كانت كتبي شريان حياة لي، ورأيت فيها مستقبلي، الذي أرادت صواريخ الاحتلال سلبه، وقلت يومها في نفسي: "أنا هنا للدراسة ولن أسمح للاحتلال بقتل حلمي".

تخرجت بعد ٤ أعوام بتقدير "ممتاز" في الجامعة، لقد كنت مصمما على إثبات جدارتي في الحياة.. فأنا لست سوى إنسان ولد في وطنه.. ويريد أن يكبر في وطنه بحرية وكرامة.. أنا لست سوى صاحب هذه الأرض!

إنها أرض السلام التي ما رأت يوما سلاما..

وأنا منهمك بالكفاح لبناء مستقبلي، عاود الاحتلال شن حرب ضروس أخرى على قطاع غزة عام ٢٠١٢.

لم نكن قد شفينا بعد من آلام حرب ٢٠٠٨، التي استمرت ٢٢ يوما.

لثمانية أيام، مرت كثمانية أعوام، استمرت الحرب في تدمير كل ما هو فلسطيني.

ربما عد البعض (خارج قطاع غزة) أيام الحرب عدا، وربما لم يعرها آخرون اهتماما.. ووحدنا في غزة تجرعنا مرارتها.

وما هما إلا عامين حتى شن الاحتلال حربا ثالثة على القطاع استمرت هذه المرة 51 يوما، وخلالها كنت أشهد آلامها، وآلام من قصفت الطائرات الحربية بيوتهم، وقتلت أبناءهم، ويتمت أطفالهم، وسلبت حياة بعضهم.

لقد كتبت بصفتي صحفيا قصصهم الإنسانية، المغروسة في وجداني، المحفورة في ذاكرتي، الحاضرة في مخيلتي، وكيف أنسى آهات أم أو صرخة مسن، أو مشهد أب صدم بابنه الذي غطته الدماء، أو طفل فقد عائلته، وبات يتيما!

كيف أنسى كل هذا الهم الذي أحمله في صدري!

وماذا عسى مشاعري تقول لي ولأولئك الذين أجبرتهم الغارات على النزوح من منازلهم!

حاولت لملمة أوجاعي، وأجمع شتات نفسي، لأكمل بناء مستقبلي في وطني السليب.

ولطالما رفضت ولا أزال مغادرة وطني، وعندما قررت أول مرة في حياتي عام 2016 السفر إلى قطر للالتحاق بدورة تدريبية في مجال التلفزيون، كانت المعابر مغلقة في وجهي.

انهار حقي في السفر كما لو كان حلما!

عدت أدراجي وتحاملت على نفسي ورممت أملي وثقتي في الوصول يوما إلى مبتغاي.

وزاد حسرتي معرفتي بأنه كان لنا يوما مطار، في غزة، لم أره، لا لشيء إلا لأن صواريخ الاحتلال لم تبق فيه شيئا ولم تذر!

وفضلا عن ذلك، يجعل الاحتلال من تحركي داخل مدن وطني مستحيلا!

بضع سنوات مرت حتى عادت طائرات الاحتلال لممارسة هوايتها في شن حرب ضروس على قطاع غزة، كان ذلك عام ٢٠٢١، وأخرى عام ٢٠٢٢.

رافق ذلك "سهام الحصار"، التي لم تقيد حريتي فقط، بل حاربتني بصفتي فلسطينيا في غزة، في قوتي، ومشربي، وملبسي، ولاحقتني في أصغر تفاصيل الحياة وأكبرها.

عام ١٩٤٨ اعتمدت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بوصفه أنه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم. وهو يحدد، وللمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميا.

لكن هل حصلت أنا بصفتي فلسطينيا على أي منها؟ لنستعرض بعض موادها ونرى..

المادة ١: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، فهل بقي حق واحد لي لم ينتهكه الاحتلال؟ أو ليس وجوده بحد ذاته انتهاكا لحقوقي؟

المادة 2: "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر..."، أولم يشيد الاحتلال جدار فصل أكدت محكمة العدل الدولية عدم قانونيته عام ٢٠٠٦؟

المادة 3: "لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه"، فماذا عن كل الحروب التي شنها الاحتلال وسرقت سني عمري؟

المادة 4: "لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه"، ألا يعاملنا الاحتلال كعبيد لا يحق لهم الاستقلال ويمنع عليهم حتى الصراخ؟

المادة 5: "لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة"، فهل هناك تعذيب أقسى من وجود الاحتلال وممارساته؟

المادة 6: "لكلِّ إنسان، في كلِّ مكان، الحقُّ بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية". ألم يسحق الاحتلال كل مظهر لشخصيتي الفلسطينية؟ ويمنع إقامة دولة فلسطين حتى وفق القرارات الدولية؟ ألم ينف الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش وجود شعب فلسطيني، وزعم أنه "اختراع وهمي لم يتجاوز عمره 100 سنة".

المادة 7: "الناسُ جميعًا سواءٌ أمام القانون، وهم يتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز". ألم يتجرأ الاحتلال حتى على وصف المحاكم الدولية التي يلجأ إليها الفلسطيني بأنها "غير قانونية" وعلى وصف القرار الأممي بالتوجه إلى محكمة العدل الدولية بأنه "حقير"؟

المادة 8: "لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ". إذا كان الاحتلال يعارض اللجوء الفلسطيني للمحاكم الدولية فهل سيؤمن بالمحاكم الفلسطينية؟ أولم يحارب بنيامين نتنياهو حتى القضاء الإسرائيلي الذي هو في الأساس جزء من المنظومة المحتلة؟

المادة 9: "لا يجوز اعتقالُ أيِّ إنسان أو حجزُه أو نفيُه تعسُّفًا" أليس هناك آلاف الأسرى والمعتقلين الإداريين دون تهمة أو محاكمة؟

المادة 13: (1) "لكلِّ فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة". (2) "لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده". ألا يفرض الاحتلال حصارا على قطاع غزة ويتحكم بمعابر الضفة الغربية؟ ويمنع تشييد ميناء أو مطار فلسطيني؟

المادة 15: (1) "لكل فرد حق التمتع بجنسية ما". أولا يحارب الاحتلال كل ما هو فلسطيني بما في ذلك العلم؟ أولم يقتل المقعد الشاب إبراهيم أبو ثريا بمحاذاة السياج الفاصل وهو يحمل علم فلسطين عام ٢٠١٧؟

المادة 17: (1) "لكلِّ فرد حقٌّ في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. (2) لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسُّفًا". ألا يمنع الاحتلال الفلسطينيين من البناء على أرضهم ويهدم منازلهم خصوصا في المناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية؟

المادة 19: "لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود". ألم يحارب الاحتلال الرأي الفلسطيني ويقمع الفعاليات الشعبية بالغاز المسيل للدموع والرصاص؟

المادة 20: (1) "لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية". ألم يصنف الاحتلال 6 مؤسسات حقوقية فلسطينية وغيرها الكثير كـ"منظمات إرهابية"؟

المادة 21: (3) "إرادةُ الشعب هي مناطُ سلطة الحكم، ويجب أن تتجلىَّ هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريًّا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرِّي أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرِّية التصويت". ألم يعرقل الاحتلال مرارا إجراء انتخابات فلسطينية؟

المادة 23: (1) "لكلِّ شخص حقُّ العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة". ألم ينتج الحصار والاحتلال نسب بطالة فلسطينية تفوق ٥٠% من إجمالي الخريجين؟

المادة 26: (1) "لكلِّ شخص حقٌّ في التعليم". ألم يقصف الاحتلال منشآت تعليمية ويقتل طلبة علم ويمنع تنقل آخرين إلى مدارسهم؟ ألم يقتل الاحتلال إياد الحلاق الطالب الأعزل من ذوي الاحتياجات الخاصة في البلدة القديمة بشرقي القدس عندما كان في طريقه إلى المدرسة عام ٢٠٢٠؟

هل ثمة ما يمكن أن يفعله العالم لتعويضي وأبناء شعبي عن كل هذه المآسي؟