أسدلَ الليلُ ستاره على قلوبهم المزدحمة بالأسى، وسحق الانتظارُ "كفاح" وإخوته دون أن يصل "جاتوه" ذكرى ميلاده ورأس السنة الميلادية، من أبيهم نزار بنات الذي دفع دمهُ ثمنًا لحرية شعبه.
نامت عقولهم عن الحلم، وأرخت العذابات أجسادهم اليافعة، وذبلت أزهار أعمارهم بين سنديانِ الاحتلال، ومطرقة السلطة التي اغتالته في 24 يونيو/حزيران، ضربًا وتعذيبًا.
رأت فيه السلطةُ ساعيًا لـ"إفساد" حكمها، مُحاربًا "للمقامات العليا"، مُثيرًا "للنعرات"، وأرادت له أن يُقتلَ، أو يصلب، أو تقطع يديه ورجليه من خلاف أو ينفى من الأرض، ورأى هو في نفسه فاضحًا للفساد، كاشفًا للتفرد في مصير شعبٍ بأكمله يتوقُ للحرية.
في آخر أسبوعٍ له على قيد الحياة، كان أسيرَ الوحدة جسدًا، ومتحررًا روحًا، يداعب طفلته ماريا (تسعة أشهرٍ) عبر فيديو مسجل، قبل أن ينام ليلته الأخيرة، بعيدًا عنها، ويفيق على قوة أمنية من جهازي الأمن الوقائي والمخابرات العامة تقتحم منزله بعد تفجير مدخله، وتنهال عليه بالضرب بواسطة هراوات حديدية وخشبية.
النتيجة هي: وفاة جنائية، ومشاهدات تشريح تثبت وجود إصابات كدمات وتسحجات في مناطق عديدة من الجسم، بما في ذلك الرأس والعنق والكتفان والصدر والظهر والأطراف العلوية والسفلية، مع وجود آثار ربط على المعصمين، وكسور في الأضلاع.
اختار نزار أن يستأجر منزلًا أواخر أيامه، ليقينه بأن السلطة قررت قتله، وأراد ألا يشهد الجريمةَ أبناؤه الذين تكبرهم قبس (18 عامًا)، ويليها كفاح (11 عامًا)، ومريم (أربعة أعوام) وخليل (عامان ونصف)، وماريا.
كيف لا، ونزار لم ينسَ الجريمة التي قيدها أمن السلطة في الضفة الغربية "ضد مجهول"، عندما أُطلقت النار مباشرةً على منزل العائلة.
كان ذلك في شهر رمضان، وكما هو معروف يخرج معظم الرجال بعد الإفطار للسهر مع أصحابهم، وهذا حال نزار، على حين كان في المنزل ضيوف، وبمجرد أن غادروا، توجه الأبناء لشراء بعض الحاجيات، فواجههم مقنع.
- أبوكِ موجود؟
- لا.
سؤال وجواب بينه وبين قبس جعلا الشكوك تدور في نفسي، وسرعان ما اتصلتُ بنزار لأبلغه، فتوقع أن ثمة محاولة لاعتقاله، لكن الرصاص ما انفك يقتحم غرفة النوم ويصيب سقفها إلى أن نفد من مخزن سلاح المقنع.
أعدتُ الاتصال بنزار، فقال لي: "هؤلاء قادمون بعملية قتل لا تخويف، وإلا لما أطلقوا النار على غرفة النوم". نعم كانت أشبه بمحاولة إبادة جماعية، وأنا أصرخ: نزار غير موجود، لكن حرمة البيت لم تُراعَ.
حينها لم يكن مر على مغادرتي المستشفى أربعة أيام، إذ مكثت 50 يومًا على أجهزة الأكسجين لإصابتي بفيروس كورونا.
حضر أمن السلطة والمباحث، جمعوا الرصاص، وكل ما يثبت الجريمة، وفي اليوم التالي توجهت إلى المحكمة وقدمت بلاغًا، فلم يُحقق بالجريمة، ولم نحصل على حقنا.
حدث ذلك بعدما عطَّل رئيس السلطة محمود عباس حلم الشعب بإجراء الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في مايو/أيار، وطالب نزار -المرشح على قائمة "الحرية والكرامة"- الاتحاد الأوروبي بقطع تمويل السلطة.
ماذا كان رد فعل نزار؟ عاد الرجل ليصور مقطع فيديو جديدًا يقول فيه: لم يبقَ في الحياة حياة، والشهادة عندنا ثقافة، هذه البلد من يستشهد فيها على أرض الوطن محظوظ.
وعندما عاد أمن السلطة اتصلتُ به وقلت له: كيف ستتصرف؟ قال لي: اسأليهم مَن أطلق النار علينا؟ عندما تبلغوننا سنفتح الباب، تعاملي مع الموضوع "عادي".
وفي آخر محادثة قال لي: إذا قتلوني فأنا شهيد، وهذا ما تمنيته من ربي، وهم المخطئون. هكذا لم يُبدِ نزار يومًا أنه تراجع عن موقفه، وعلى العكس كان دائمًا مُصرًّا عليه.
ومَن ينسى "صفقة اللقاحات الفاسدة" عندما أبرمت السلطة اتفاقًا مع (إسرائيل) لتسلم مليون جرعة من لقاح فايزر المضاد لفيروس كورونا، "غير مطابقة للمواصفات" في يونيو/حزيران. حينها سجل فيديو دون تراجع أو خوف، ليعرف المواطنون ما يحدث حولهم.
حمل نزار هم الوطن على كتفيه، مرددًا دائمًا: يجب ألَّا نسكت، ورسالته وصلت لكل العام، وكثيرون بعد نزار باتوا يعلون أصواتهم، لقد جرَّأ المواطنين على التعبير عن حقوقهم في الواقع المرير الذي يعيشونه.
نزار الذي درَّس اللغة العربية، وعمل في الديكور والدهان والتصوير وأخيرًا النجارة، ظل مطارَدًا من السلطة وذات مرة طورد بادعاء تنظيم وقفات وحراكات "دون إذن محافظ رام الله"، واعتقله الأمن الوقائي أسبوعًا، وبعدها سجل فيديو عن التعاون الأمني بين السلطة و(إسرائيل)، وهنا غزت الخطورة حياته واعتقلوه في يوم خميس.
في اليوم التالي عرفنا أنه في المباحث، ذهبنا لنسأل عنه فرفضوا إدخالنا لرؤيته، ويوم السبت -وهو إجازة رسمية- كانت كل الدوائر والمؤسسات الحكومية مغلقة ومع ذلك أحضروا نزار إلى المحكمة، وجلبوا النيابة العامة خصيصى ليحولوه إلى لجنة أريحا.
وفي اليوم الخامس أفرج عنه مع احتجاز هويته ستة أشهر، ولكنه لم يحصل عليها، وتعرض لتهديدات هاتفية وفيسبوكية منها: "سنقتلك، رأس مالك رصاصة، آخرك فقط دهس سيارة".
باغته اتصال ذات مرة عند الثالثة فجرًا، وسألته: مَن المتصل؟ فأجاب: لا شيء، فقط يهددوني بأنهم سيقتلونني! فقلت له: معقول! إلى هنا وصل الموضوع؟ لكنه توقع أنهم أجبن من تنفيذ هذه الجريمة.
انتقد نزار المولود عام 1978 مرارًا سياسات السلطة وبرز ذلك في 2012 عندما طالب بتغيير اسم دوار في منطقة باب الزاوية بمدينة الخليل، من "أبو مازن" وهي كنية رئيس السلطة، إلى اسم الشهيد مروان زلوم، فاعتقله الأمن أيامًا.
لكن وتيرة مقاطع الفيديو التي تنتقد السلطة تسارعت في 2013 وما بعدها. ليس ذلك فحسب، بل إنه طُرد وضُرب عندما خاطب أحد الوزراء بلهجة شديدة وغطت الدماء وجهه.
عانى نزار في السنوات الأخيرة إغلاق حسابه في فيسبوك، وملاحقته في رزقه، إذ أغلقت منجرته ستة أشهر بسبب مطاردته، واعتقل لنحو ثماني مرات، مكث فيها عشرات الأيام بالسجون، لكن أيًّا من التهم الموجهة إليه كـ"قدح المقامات العليا" أو "إثارات النعرات"، لم تثبت عليه وحصل دائمًا على البراءة.
على الرغم من ذلك، ظل محرومًا من السفر حتى لمعانقة أبيه وأمه منذ 2007.
رفض نزار التخلي عن حقه في التعبير عن الرأي، ووقفتُ إلى جانبه في المحاكم والسجون والوقفات لآخر لحظة.
عند الثالثة والنصف في 24 يونيو/حزيران تفاجأت بنبأ مفاده أن قوة من أمن السلطة اعتقلت نزار، تواصلت مع أبناء عمه، إذ كان بيته المستأجر بجوارهم، وأكدوا اعتقاله، وأخفوا عني أنه ضُرِب حتى لا أخاف، لكنني عرفت ذلك، وأبلغتهم، فقالوا: صحيح، ولكن إن شاء الله تكون الأمور تحت السيطرة، وعند الرابعة والنصف، استُشهد.
حاولت السلطة حرف مسار القضية إلى العشائر، وإثارة الفتن، لكنها فشلت في ذلك، فنزار لم يكن يومًا إلا مسالمًا مع مجتمعه، مدافعًا عن وطنه.
وأمام الضغوط ومطالبات الاتحاد الأوروبي بالعدالة، أعلنت السلطة "محاكمة" لم تكُن سوى مسرحية، تجاهلت فيها القادة الذين أصدروا أوامر الاغتيال، ووجهت لضباط وعناصر القوة التي نفذت الجريمة وعددهم (14) من منتسبي جهاز الأمن الوقائي في الخليل لائحة اتهام بالضرب المفضي إلى الموت، وتخلل جلساتها تطاول على محامي عائلة بنات وأحد الشهود.
هذه المحكمة مرفوضة، لأن قرار اغتيال نزار سياسي من جهات عليا، وحصر القتلة بالعناصر الـ(14) والعمل على إخراجهم من السجن، يعني زيادة الطين بلة.
تحاول السلطة عن طريق المحكمة فقط صرف نظر الشارع والاتحاد الأوروبي الذي هب بعد اغتيال نزار، وهي غير جادة في معاقبة القتلة الذين حضروا للمنزل على نحو مخالف للقانون، ودون حتى مذكرة اعتقال.
اعتقدوا أن بإمكانهم تنفيذ الجريمة والهرب، لكن كل أركانها موثقة بالكاميرات، ونزار اغتيل على يد أمن السلطة، الذي قيده وضربه ولم يسعفه، وأنا غير مقتنعة بالمحكمة، ولا أرى فيها جدية.
نزار الذي استدعاه الاحتلال للتحقيق مرارًا، وضيقت عليه السلطة سبل الحياة، لم يكُن له ذنب سوى المطالبة بالحرية، والمعرفة بحقيقة القضية الفلسطينية ووجود الاحتلال، والتصدي لمحاولة غسل أدمغة الشباب الذين يعانون الكبت والسجن والفساد، أراد فقط تصويب البوصلة، حتى صنع تاريخه بدمه.
مرت الأشهر طويلةً، حتى حلت نهاية 2021، وبداية 2022، وظل الأولاد ينتظرون أباهم ليحضر لهم قالب الجاتوه كما عودهم، لكنه لم يأتِ.
بعض الناس يظنون أن الجرح يلتئم مع الأيام، لكن الجرح يزيد، ويوميًّا يسألني الأولاد عن نزار: أين بابا؟ لماذا لم يعد؟ لا تزال تسيطر عليهم فكرة أنه مطارَد ولم يُغتل بعد.
أدخل غرفة نوم ابنتي مريم، الأكثر تعلقًا بأبيها، أجدها تقول: السلطة قتلت نزار، وتطلب من ألعابها أن يرددوا ذلك! وآخر ما قالته لي: بابا جالس بين الغيوم، فأجبتها: نعم، وسنذهب عنده في الجنة.
هذا هو جرح جيهان الحروب -زوجة نزار- تلقيه على مسمعي بكلمات من لهب، عن المعارض السياسي الذي هز اغتياله الساحة الفلسطينية.
يا للعجب! ما هذه السلطة التي تضيق ذرعًا من مواطنٍ يعبر عن رأيه الذي يقمعه الاحتلالُ! وإذا كان هذا تصرف السلطة تحت الاحتلال، فما بالنا لو أنها كانت تحكم في دولة مستقلة يتمتع فيها المواطنون بالرفاهية؟
جريمة تهز كل لحظة ضمائرنا الحية، ونحن نشاهد فعلة تضرب بالإنسانية والقوانين الدولية عرض الحائط، على حين يُغض الطرف عن العقل المدبر لعملية الاغتيال، وتُبهت جريمة المنفذين.
هذا هو التعبير الحقيقي عن مقولة: إنها مسرحية تنصف القاتل!
فمتى سيُنصف المظلوم؟ وكيف ستنصف السلطة أبناء نزار؟ إن كان سبيل إنصافهم هو عدم حرمانهم من أبيهم، وقد قتلته وهي تعلم أنها لا تملك إعادته إلى الحياة!
وهكذا يبقى دم نزار نازفًا، في قلب زوجته وأبنائه وشعبه.