على الرغم من أن كل الشواهد تدلل على أن رئيس السلطة محمود عباس غير معني بإحداث أي تحول على وظيفة سلطته تجسيدا لمقررات المجلس المركزي الفلسطيني، التي جاءت ردا على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة «لإسرائيل» ونقل السفارة إليها، فإن قرار ترامب الأخير تحديد الرابع عشر من مايو القادم كموعد لنقلمقر السفارة سيمس بشكل كبير بهامش المناورة الضيق أمام قيادة السلطة الفلسطينية.
ومما يحرج عباس أكثر أن قدرته على المناورة السياسية باتت مستحيلة. فنظرا لعجز الأطراف الدولية عن لعب أي دور في جهود الوساطة بسبب رفض كل من واشنطن وتل أبيب، فإن رئيس السلطة يعي أن الموافقة على استئناف المفاوضات بعد تطبيق قرار نقل السفارة تعني تسليما فلسطينيا بإخراج القدس من دائرة المفاوضات، كما أوضح ترامب بشكل صريح خلال مشاركته في مؤتمر «دافوس» الاقتصادي مؤخرا.
وعلى الرغم من أنه يمكن الافتراض أن عباس سيحاول المناورة من جديد، إلا أنه سرعان ما سيكتشف أن البساط قد سحب من تحت قدميه بأسرع مما يتوقع. فهو سيحاول من ناحية اقناع الجمهور الفلسطيني بأنه تشبث بالموقف الرافض لعودة الولايات المتحدة لاحتكار جهود الوساطة الهادفة لحل الصراع. لكن الجمهور الفلسطيني معني بشكل خاص بإعادة صياغة العلاقة مع الكيان الصهيوني بشكل كامل وإعادة تدوير وظيفة السلطة وتحويلها إلى أداة مقاومة لا أداة لتمكين الصهاينة من تحقيق مآربهم.
فمنذ انتهاء جلسات المجلس المركزي، دلل عباس مجددا على أن التعاون الأمني مع الاحتلال ليس فقط مقدسا، بل إنه حرص على تحدي مشاعر شعبه من خلال توسيع التعاون الاقتصادي مع الصهاينة أيضا. فقد التقت وزيرة الاقتصاد في حكومة رام الله بوزير الاقتصاد الصهيوني في باريس، في حين يحل منسق أنشطة الحكومة الصهيونية في الأراضي المحتلة الجنرال بولي مردخاي ضيفا دائما في ديوان رئيس حكومة السلطة رامي الحمد الله.
ومما يزيد الأمور تعقيدا أن الإسراع في تطبيق قرار نقل السفارة على وجه الخصوص سيحرج عباس أكثر، حيث تعاظمت الدعوات من القيادات السياسية والنخب الفلسطينية لاتخاذ قرارات عملية، بحيث إنه لم يعد هناك للتسويف، سيما في كل ما يتعلق بوقف التعاون الأمني مع سلطات الاحتلال.
في الوقت ذاته، فأن عباس يعي أن الإدارة الأمريكية، بالتعاون مع حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب معنية بتطبيق ما جاء في «صفقة القرن»، كما كشفتها وثيقة عريقات من جانب واحد، دون الحاجة إلى المفاوضات. فهناك ما يدلل على أن ترامب يخطط لإصدار تصريح آخر يدعم فيه موقف إسرائيل الرافض لعودة اللاجئين الفلسطينيين، بحيث يتم تطبيق هذا الحق خارج الأراضي «الإسرائيلية».
في الوقت ذاته هناك ما يدلل على أن حكومة بنيامين نتنياهو شرعت فعلا بشكل صامت في تطبيق هذا البند تحديدا، حيث إن هذه الحكومة أصدرت عدة قرارات بتبييض عدد من النقاط الاستيطانية التي بناها المستوطنون في أرجاء الضفة دون الحصول على ترخيص من السلطات الإسرائيلية. وحسب ما كشفته قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية فإن «إسرائيل» ستتخذ خلال العام 2018 قرارا بضم منطقة «ج»، التي تشكل 60% من الضفة الغربية.
ومن نافلة القول إن مواقف القوى الإقليمية العربية ستزيد الأمور تعقيدا أمام قيادة السلطة، حيث إن هذه القوى على الرغم من إعلانها رفض القرارات الأمريكية بشأن القدس، إلا أنها في المقابل تصر على أنه لا بديل عن الوساطة الأمريكية.
ما بات مؤكدا أن إصرار عباس على مواصلة التشبث بالتعاون الأمني ستزيد من إصرار الفلسطينيين على تحدي سلطته وتوجهاتها، حيث إن حجم الهوة يتسع باطراد بين الجماهير الفلسطينية وقيادة السلطة التي قد تخاطر بصدام مع هذه الجماهير. فحتى المنتمون لحركة فتح لم يعودوا قادرين على التعايش مع هذه المواقف. فبعد إقدام قيادات ميدانية من حركة «فتح» قبل شهر على طرد وفد أمريكي من بيت لحم وقيام نشطاء فلسطينيين قبل عدة أيام بإحباط مشاركة وفد آخر في مؤتمر بحثي نظم في رام الله، فإن كل الدلائل تشير إلى أن إستراتيجية السلطة القائمة على المراوحة في المكان لفظت أنفاسها.