"كبر الأبناء، وزاد عددهم حتى أصبحوا سبعة.. لا أعرف كيف؟!، فكل ما أملكه هو هذه الغرفة التي لا تتجاوز مساحتها مع المطبخ والحمام 40 متراً"، قالها "سعيد" محدثاً "فلسطين عن حياته البائسة.
تزوج "سعيد" قبل نحو 23 عاماً، ومنذ زواجه خصصت له والدته من إرث أبيه غرفة مساحتها 40 متراً، اقتطع منها جزءًا جعل منه مطبخا، وآخر جعل منه حماماً للعائلة التي بدأت بطفل واحد وهي الآن مكونة من تسعة أفراد أكبرهم طالب جامعي.
راتب الشؤون
عن ابنه، قال: "درس بين تسعة أفراد، في غرفة لا تدخلها الشمس، ولا حتى الهواء فهي بلا نوافذ، وتطل على الشارع مباشرة مما دفعني لوضع بطانية أمام المدخل لتستر زوجتي وبناتي، ومع ذلك نجح في الثانوية العامة بمعدل جيد جدًا، والتحق بالجامعة، لكن راتب الشؤون الاجتماعية تأخر، وها هو يجلس في المنزل".
أما سعيد نفسه، فهو مريض أزمة صدرية منذ الولادة، ولعل هذا السبب الذي دفع والدته إلى تزويجه في سن مبكرة، وهو صاحب صنعة "قصّير"، لكن رائحة الاسمنت كانت تثير الحساسية في صدره فتصيبه الأزمة ليقع مغشياً عليه، ويعود إلى منزله محمولاً على أكتاف الرفاق.
حاول "سعيد" أن يغير مهنته، وعمل في مهن متعددة تحتاج إلى جهد بدني كعامل بناء ينقل الرمل، لكن مباغتة الأزمة له والإغماء في مواقع عمله المتعددة أجبراه على التزام المنزل، إن صحّت تسميته منزلًا.
عن هذا المنزل، قال: "أبنائي شباب ولدي ابنة شابة أيضا، لا يوجد لي كأب أي خصوصية ولا حتى لأبنائي وبناتي، فإن أراد أحد أبنائي تبديل ملابسه على أمه وشقيقاته أن يدخلن المطبخ أو يخرج إلى الشارع".
وأضاف: "حياتنا بالطابور عند باب الحمام، نقف في الصباح لنأخذ دورنا فيه، عدا عن أن أحد الأبناء إذا استيقظ مساءً كي يذهب إلى الحمام فإنه يدوس أقدام إخوته الممدين نياماً بعرض الغرفة وحتى باب الحمام نفسه".
يعيش "سعيد" على المساعدات التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، والتي يضطر أحياناً لبيع بعض أكياس الحليب أو عبوات زيت الذرة التي يستلمها ضمن "كوبونة الوكالة" حتى يتمكن من التنقل هنا وهناك.
فقط للصورة
لجأ "سعيد" إلى وزارة الإسكان علّها تساعده بالحصول على منزل، وهو الذي حاول الحصول على شقة في "مدينة حمد" قبل عامين أو ثلاثة -كما يقول- لكن محاولاته لم تنجح، والوزارة أخبرته أن باب التسجيل مغلق الآن، قال: "يجب أن نبقى في هذه الغرفة لأعوام أخرى".
وأضاف: "بالكاد أستطيع أن أتدبر أموري، وكل مؤسسة أو جمعية أطرق بابها لا أسمع منها جوابا، إلا من رحم ربي، ومن يأتي لمساعدتي يعطيني 100 أو 200 شيكل، ويلتقط الصورة ثم يغادر".
توقف عن الحديث لفترة قبل أن يتابع بأسى باذخ: "أنا لا أجرؤ على نشر مناشدتي عبر الإنترنت، حتى وإن كانت السبيل الوحيد لذلك، فأبنائي شباب، لن أكون سبباً في خزيهم أمام الناس".
وأوضح: "أعيش على مساعدات الأونروا، وأرسل أبنائي لجمع بقايا الخضار التي تتركها العربات في الأسواق، نأخذ منها ما نستطيع أكله ونرمي الباقي.."، وسكت لبعض الوقت قبل أن يبين: "هكذا نعيش".
سألته عن أمنيته، وكانت الإجابة سابقة للسؤال، دار بعينيه في أرجاء المكان، ورد على السؤال بسؤال: "كثير لو طلبت غرفة لكل ثلاثة من الأبناء؟، إن طلبت بعض الخصوصية لشباب وشابات ومراهقين؟؟ إن طلبت الستر لزوجتي وابنتي من باب منزلنا المطل على قارعة الطريق؟".
للحظة عجز لساني عن الكلام، هل حقاً يطلب هذا الرجل الكثير؟ وهل عجزت غزة عن حمل المعوزين من أبنائها، أم أن مستوى الفقر والفاقة التي بلغها عدد كبير من الأسر الغزية يفوق القدرة على تدبر أمرها؟
أنهيت لقائي مع سعيد، الذي ليس له من اسمه نصيب على ما يبدو.. تركته مع مرضه، ومع زوجته وأبنائه في تلك الغرفة، التي تشبه المخازن في رطوبتها وعتمتها وبؤسها، حيث يترعرع أطفال هذا السعيد.