أعجبتني عبارة كنت قرأتها في أحد كتب التفسير أو علوم القرآن لا أذكر الآن أين. مفاد العبارة أن أسرار آيات القرآن في خواتيمها، والخواتيم في الأغلب تنتهي بأسماء حسنى مركبة (أكثر من اسم)، وهذا الكلام صحيح فالأسماء معاقد الآيات ومنتهى الأمر، وهذا سر لا يدركه إلا القليل. لذا كل اسم مركب في آخر آية يرشد إلى سر تلك الآية، ويفهمنا جزءًا من أسرار سننية تلك الآية.
حتى لا أطيل هنا أذكر آية وأبرز سرها السنني، وهي في حق يعقوب ، يقول الله : "وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [يوسف6] هنا الآية تكلمت عن سنة الاجتباء، وانتهت بقول يعقوب إن ربك عليم حكيم.
وهذه الصيغة جاءت في سياق الدعاء من يعقوب ، بمعنى أن ربك عليم يعلمك العلم، حكيم يهبك الحكمة، وهاتان الصفتان هما منتهى سنة الاجتباء ومعقدهما، لكن في الآية قدم العلم على الحكمة جريًا على السنن الإلهية الجارية، لأن الحكمة هي اكتمال تجربة مبنية على العلم، والعلم سابق لهذه التجربة، فلا بد من العلم قبل الحكمة، فهذه هي السنن؛ لذا قدمت الآية العلم على الحكمة بحسب السنن هنا.
طبعًا هذه الآية تشير للتأويل اليعقوبي للرؤية، فنلحظ في سياق السورة أن ما حصل مع يوسف لم يكن سنة إلهية جارية، بل سنة إلهية خارقة، يقول الله : "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" [يوسف22].
فيعقوب قدم العلم على الحكمة بحسب السنن الإلهية الجارية، لكن الآية هنا في حق يوسف قدمت الحكم والحكمة على العلم، من باب الجزاء على إحسان يوسف ، وخرقًا للسنن الجارية نحو الخارقة في حق هذا النبي ، وهذه الحالة التي تسبق فيها الحكمة العلم هي خاصة بالأنبياء في حالات خاصة مخالفة للسنن الجارية.
أما لماذا كانت هبة الحكمة ليوسف قبل نعمة العلم!؟ لأن حاجة يوسف للحكمة وتقدير المواقف كان أكثر من حاجته للعلم نفسه، فهو يعيش تجربة خاصة في أرض غربة تم بيعه فيها كمملوك لا يملك من أمره شيئًا، وهذه الحالة تفتقر للفرص المواتية لحصول العلم وتحصيل أسبابه؛ لذا عاجله الله بالحكمة قبل العلم لكي يكون عنده حسن تقدير للمواقف التي يتعرض إليها، ويتصرف معها بحسب ما يتناسب وهذه الحكمة بعينها، وهي حاصله قبل سجنه.
أما في السجن فكانت الفرص مواتية لتحصيل العلم، فكان العلم بتحصيل أسبابه. هنا السنة الخارقة ليوسف لم تقتصر على صفتي العلم والحكمة كمعقد للسنة ومنتهاها، بل ساندتها صفات لله أخرى قدرت التأخير والتقديم وخرق للسنة الجارية، كصفة الرحمة وصفة الوهاب وغيرهما من الصفات.
فيعقوب اختار ترتيبًا يتوافق مع الوضع الطبيعي للسنن، لكن الظرف الخاص ليوسف فرض خرقًا لهذا الترتيب، بتساند صفات أخرى غيرت من الترتيب الطبيعي للعلم ودرجاته في حق يوسف .