وسط ليل غزَّة الحالك، حيث الصمت المشوب بالخوف يخيم على الأرجاء، كانت مركبة البث تقف كنافذة صغيرة تنقل صوت الحقيقة إلى العالم، وفي داخلها، خمسة صحفيين حملوا أقلامهم وكاميراتهم كجنود في ميدان الكلمة، يبحثون عن لحظة راحة بعد يوم طويل من ملاحقة المآسي.
لكن الموت، الذي لا يعرف حرمة المهنة ولا قدسية الحقيقة، تسلل إليهم على أجنحة قصف "إسرائيلي" غادر، ليحوِّل ليلهم الأخير إلى لوحة دامية من أشلاء وشظايا. ارتقت أرواحهم شهداءً، تاركين وراءهم صمتًا يتحدث ببلاغة عن بشاعة الجريمة وعن ثمن الحقيقة في وطن يئن تحت القصف.
واستشهد خمسة صحفيين، فجر 26 ديسمبر 2024، في قصف لقوات الاحتلال "الإسرائيلي"، وسط قطاع غزة، استهدف عربة بث تلفزيوني أمام مستشفى العودة بمخيم النصيرات.
وزفَّت قناة القدس اليوم الفضائية نبأ ارتقاء كوكبة من الزملاء العاملين في القناة، وهم: فيصل أبو القمصان، وأيمن الجدي وإبراهيم الشيخ علي، وفادي حسونة، ومحمد اللدعة.
وقالت، إنهم ارتقوا في استهداف صهيوني غاشم لباص البث الخارجي في مخيم النصيرات، أثناء تأديتهم واجبهم الصحفي والإنساني وهذه الرسالة السامية.
وأكدت أن هذه الجريمة الصهيونية تضاف لسلسة جرائم الاحتلال ضد الصحفيين وحرب الإبادة بحق أبناء شعبنا الفلسطيني المجاهد، مشددة على مواصلتها لرسالتنا الإعلامية المقاومة.
واحد من أولئك الصحفيين كان فيصل أبو القمصان، مراسل قناة "القدس اليوم" الفضائية، الذي كان نموذجًا للصحفي الذي يحمل أمانة قضيته وهموم شعبه في مواجهة الإبادة الجماعية الممنهجة التي يتعرض لها الفلسطينيون خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
كان أبو القمصان شاهدًا على القصف والدمار، ناقلًا للعالم معاناة شعبه المستمرة، ولم يكن دوره مقتصرًا على الإعلام فقط، بل جسّد رسالة إنسانية سامية، سعى من خلالها لتعزيز روح التضامن المجتمعي ودعوة الناس للوقوف صفًا واحدًا في مواجهة المحن.
في آخر لحظات حياته، جسّد أبو القمصان رسالته النبيلة بأبهى صورها، إذ خرج بنداء عاجل يدعو فيه للتبرع بالدم لمساندة الجرحى وإنقاذ حياة المصابين.
وولد الزميل أبو القمصان في مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة في 4 أغسطس، وتلقّى تعليمه الأساسي في مدارس المدينة وحصل على شهادة الثانوية العامة من مدرسة شهداء النصيرات الثانوية.
كما نال أبو القمصان شهادة الدبلوم في العلاقات العامة والاعلام في كلية مجتمع الأقصى للدراسات المتوسطة، وحصل على شهادة البكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة الإسراء بغزة.
ويعمل الصحفي أبو القمصان مراسلًا لقناة القدس اليوم الفضائية من جنوب قطاع غزة، ومراسلًا إذاعيًا لإذاعة صوت القدس المحلية.
وكان آخر رسالة صحفية نقلها أبو القمصان للعالم استهداف الجيش "الإسرائيلي" المولدات الكهربائية الخاصة بمستشفى كمال عدوان شمال القطاع، إذ كتب في منشور له عبر فيسبوك: "الاحتلال استهدف المولدات الكهربائية في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة ما أدى إلى انقطاع الكهرباء بشكل كامل عن المستشفى، لقتل أكبر عدد ممكن من المواطنين".
وأضاف: "في الوقت ذاته قام الاحتلال بعملية عسكرية في منطقة المخيم الجديد بالنصيرات، خلال العملية تم استهداف عدة منازل، ارتقى على إثر ذلك عدد من الشهداء وأصيب آخرون، وحتى اللحظة الاحتلال يحاصر أحد مراكز الإيواء الذي يؤوي المئات من النازحين في تلك المنطقة وقام باستهداف نفس المدرسة منذ الصباح ما أدى إلى إصابة عدد من النازحين ويصعب نقلهم إلى المستشفيات نتيجة الاستهداف المباشر لكل ما يتحرك على الأرض، كما ارتقى عدد من المواطنين أمام المدرسة ولا يستطيع المواطنون أو طواقم الإسعاف انتشال جثامينهم حتى اللحظة.. مستمرون في التغطية".
وسبق ذلك أن تحدث أبو القمصان عن مأساة نهش جثث الشهداء الملقاة على الطرقات بواسطة الكلاب إذ يصعب على الطواقم الطبية انتشالها بسبب القصف الإسرائيلي المستمر.
وكتب الشهيد أبو القمصان في منشور له: "هذا ليس مشهد من فيلم أكشن.. وليست صورة ذكاء اصطناعي.. هذا مشهد لأحد الشهداء في بيت لاهيا شمال قطاع غزة ومجموعة من الكلاب تنهش جسده لصعوبة الوصول إليه وانتشاله.. نعم، العالم اعتاد المشهد، وشهداؤنا في نظرهم أصبحوا فعلا.. مجرد أرقام".
وشكل نبأ استشهاد أبو القمصان مع زملائه الصحفيين صدمة كبيرة في أوساط زملائه وأصدقائه، إذ كتبت الصحفية غالية حمد في منشور لها: "خمسة من زملائنا الصحفيين دفعة واحدة، استهدف الاحتلال مركبتهم أمام مستشفى العودة في النصيرات فقتلهم جميعاً.. انكشاف آخر لكذبة حقوق الصحفيين و حريتهم في العمل في مناطق الحروب والصراعات.. الرحمة لزملائنا (أيمن الجدي، فادي حسونة، ابراهيم الشيخ علي، محمد اللدعة، فيصل أبو القمصان).
وكتب سائد حسونة في منشور له عبر فيسبوك: "نودع اليوم كوكبة من فرسان الكلمة والصورة، الصحفيين الأبطال الذين ارتقوا شهداء في استهداف صهيوني غادر بمخيم النصيرات. غادرونا وهم يحملون راية الحقيقة، متمسكين برسالتهم السامية حتى الرمق الأخير. أرواحهم الطاهرة ستظل شاهدة على بشاعة الاحتلال، ودماؤهم الزكية ستبقى حافزاً لكل إعلامي حر للتمسك بأمانة الكلمة ومواصلة الكفاح لنقل الواقع كما هو، رغم كل المخاطر والتحديات.
وقال حسن العايدي في منشور له: "الكيان الصهيوني الارهابي يقتل ٥ صحافيين بضربة واحدة.. لا يريد أن يبقى صوت في غزة".