فلسطين أون لاين

​إسراء جعابيص.. أتذكرين "قبّعة المهرّج"؟

...
غزة - نسمة حمتو

لطالما انفطر قلبي عندما كنت أستمع إلى أخبارك عبر وسائل الإعلام العبرية، وصرتُ أتخيلك في كل لحظة، ما الذي سيحدث معكِ؟ وكيف ستواجهين هذا الوجع وحدك؟ دائمًا كنتُ أسترق الأحاديث من محامي الدفاع الذين كانوا يأتون إلى سجن "الدامون" أسألهم عن أحوالك الصحية، وفي كل مرة أدعو الله أن ألتقي بكِ كي يهدأ غليان روحي قليلًا، وكأن الله استجاب لي فانتقلت من سجن "الدامون" إلى "الشارون"، وفور وصولي سألت عنكِ في أي زنزانة تقبعين، فأخبروني أنك موجودة في زنزانة رقم "4"، كنت أبعد عنك أمتارًا قليلة فقط.

عزيزي القارئ، هذه مُستَهلّ رسالة ترسلها الأسيرة المحررة "شيرين العيساوي"، عبر "فلسطين" إلى رفيقتها في الألم "إسراء جعابيص".. والبقية في السطور الآتية:

انتظرت بفارغ الصبر موعد "الفورة" كي ألتقي بك وأعانقك عناقًا يوازي الآلام التي تشعرين بها في كل لحظة، يساوي آلام الحروق وكمية الدماء التي نزفت من جسدك الضعيف.

حان وقت "الفورة"، دخلت إلى الزنزانة وشاهدت الشاش الأبيض الملفوف حول يديكِ كيف تحول للون الأحمر من كثرة الدماء النازفة، حينها لم يكن قد تعافى تمامًا وجهك من الحروق التي نهشت جسدك، ولم تكوني قد استكملتِ علاجك بعد.

يومها، سألتك هل يمكنني ملامسة يدك للسلام؟ فقُلتِ: "بالتأكيد ينفع"، وعانقتك بعدها عناقًا كبيرًا، قبلت جبينك، وتمنيتُ لكِ كل خير والخروج من هذا المكان الموحش في أقرب وقت.

تحدثنا طويلًا عن العنصرية في التعامل مع الأسيرات وعن زيارة أهلك الأولى وتقبلهم للحروق التي التهمت وجهك، صرتُ متعلقة بكِ كثيرًا، ففي موعد كل "فورة" أجد نفسي متجهة صوب زنزانتك، نجلس طويلًا لنتحدث في مواضيع شتّى.

لا أزال أذكر أول موعد لزيارة أهلك، حين طلبتِ مني شيئا مطرزًا لإعطائهم إياه كهدية، ووعدتك يومها أن أصنع شيئا جديدًا، أذكر جيدا كم كان حماسك لتعلم التطريز كبيرًا، أخذتِ أول قطعة "إيتامين" بين يديكِ وبدأتِ بتعلم التطريز بأسنانك البيضاء، كان الأمر في البداية صعبًا للغاية، حتى أن أول قطعة تطريز أنتجتِها كانت مليئة بالدماء من نزف أصابعك، أذكر كيف طلبتِ غسلها ولكنني شجعتك على أن تبقى كما هي، فالدماء هذه ما سالت إلا من كثرة الآلام التي تعانين منها، وليعلم أهلك أنك رغم كل الوجع الذي تعانينه إلا أنك صممتِ على صناعة هذه اللوحة الفنية بيديكِ.

رغم مأساتك التي لا يساويها وجعٌ في الحياة، إلا أنكِ كنُتِ الأقوى والأفضل، دومًا حاولتِ النهوض من جديد لترسمي البسمة على وجوه القاصرات في السجن، أتذكرين عندما قطعنا ربطات الشعر التي نمتلكها وأعدنا حياكتها كي نصنع قبعة مهرج؟ وكيف رسمتِ البسمة على وجوه الأسيرات يومها؟ أنت عنوان الصمود كله.

إسراء.. كل الظروف الصعبة التي كنتِ تمرين بها لم تكن لتوقفك عن تعلم اللغتين الإنجليزية والعبرية، رغم صعوبة مسكك للقلم تحدّيتِ بإصرار وعزيمة كل الصعاب لتصلي لطريقتك الخاصة في الإمساك بالقلم، عدم وضوح خطّك في البداية جعل ما تكتبينه أشبه بـ"الخربشات"، ومع ذلك كنتِ أول من ينهي واجباته، وحتى الامتحانات كانت لكِ بصمتك الخاصة فيها.

رغم خروجي من السجن، إلا أنني ما أزال أذكر في كل لحظة ابتسامتك الناعمة ووجهك البشوش، وحبك الكبير لصغيرك معتصم، لا أزال أذكر أول لقاء جمعك به، والليلة السابقة لهذا اللقاء، لم تنامي وأنتِ تفكرين "ماذا سيقول عن شكلي؟".

أتذكرين كيف صنعنا من غطاء الفرشات زي "النمر"، ومدى الفرحة التي ملأت قلب صغيرك معتصم لأنه رآك يومها، في ذلك اليوم رأيت بريق عينيك وكأن الحياة عادت لكِ من جديد عندما قال إنك جميلة، وعندما أخبر أصدقاءه في المدرسة "والدتي جميلة جدًا، رغم إهمال الأطباء لها إلا أنها جميلة".

في كل زيارة لـ"معتصم" يا عزيزتي لا تنامين الليل وأنتِ ترتبين الكلمات التي ستقولينها له، يعجبني دوما كيف تتمسكين به كأمل يسقي وريدك المُتعطش، كيف لوحيدك الصغير أن يزرع فيكِ كل هذا الحب والأمل، أنتِ معه ومعنا الأقوى حتى وإن غادرناكِ فقلبك الأبيض باقٍ لا يمكن نسيانه.