فلسطين أون لاين

​من "مَرمطة" غزة إلى "شَحططة" أوروبا

...
غزة - نسمة حمتو

لم يتخيل يومًا همام شهوان أن يعيش خارج هذه المنطقة الجغرافية الصغيرة، لكن ما باليد حيلة، والفكرة المستحيلة باتت الآن الأكثر إلحاحًا.

تخرج هذا الشاب في الجامعة وبحث عن عملٍ سنواتٍ طويلة، بعد أن يأس من صلاح الوضع السياسي المعقد، وهو ما جعله يحزم أمتعته إلى ماليزيا، ظنًّا أن الحياة ستكون وردية هناك، فإذا الأمر ليس كما يبدو من ظاهره، إنه حال الكثيرين من الشباب الذين قرروا الهجرة من غزة، لكنهم يتفاجؤون بالواقع الصعب في الدول الأوروبية؛ فالباب ليس مفتوحًا على مصراعيه كما يُصور لهم بعض.

يقول شهوان (27 عامًا) عن بداية سفره إلى ماليزيا: "توقعت أن الأمور ستكون "فوق ريح" (بالتعبير الدارج)، وأنه بوسعي بناء مستقبلي في هذه الدولة، لم يخطر ببالي الارتفاع الجنوني للأسعار هناك، ما اضطرني إلى العمل في مطعم بعد أن تعلمت اللغتين الماليزية والإنجليزية".

ويضيف: "عملتُ في أكثر من مجال حتى وصل بي الحال أن أعمل مرشدًا سياحيًّا للعرب، كنت أجمع النقود وأنفقها على نفسي، ولكن الحياة في ماليزيا بالغة صعوبة؛ فقررت الهروب إلى تركيا كأغلب الشباب الذين يبحثون عن فرص عمل هناك".

ويتابع قوله: "بعد السفر إلى تركيا التقيت زوجتي الحالية، وهي من روسيا، وأنجبت منها طفلة، ثم ذهبت إلى روسيا للعيش فيها، هناك أيضًا فرص العمل غير متوافرة، وها أنا أحاول تعلم اللغة".

لكن أي ظروفٍ دفعت شهوان أن يلقي بنفسه في مغامرةٍ لم تكن عواقبها تخطر ببال؟، يتنهد طويلًا ثم يجيب: "الحياة صعبة في غزة، ووجود فرص عمل للخريجين أشبه بالخيال، والأوضاع الاقتصادية لا يبقى سوءها على حاله، كل ذلك دفعني إلى المجازفة كي أبحث عن فرصة عمل جديدة في دولة أجنبية، والآن أفكر يوميًّا أن أعود إلى غزة، لكن عدم استقرار الأوضاع يُشعرني دائمًا بالحيرة، ويبقيني أسير التردد".

ويعد قطاع غزة حسب بيانات البنك الدولي الأعلى عالميًّا في معدل البطالة (41.7%)، والأعلى في نسبة الفقر (65%)، ومن الأعلى في نسبة تلوث المياه (95%)، ومن الأعلى في معدلات انقطاع التيار الكهربائي (20-22 ساعة انقطاع يوميًّا)، ومن الأعلى كثافة سكانية في العالم (5521 فردًا/كم2).

حلم "الجنسية"

لا يختلف الحال كثيرًا عند الشاب مؤيد عبد الرحيم (29 عامًا)؛ فهو كذلك لم يجد فرصة عمل مناسبة له في غزة، ما شجعه على السفر إلى تركيا للبحث عن فرصة عمل، أملًا في عيشٍ أفضل.

يقول عبد الرحيم الذي تفاجأ بواقع صعب في تركيا: "الحياة جميلة جدًّا في تركيا، هذا ما توهمته، لا أعرف من أين أتيت بهذه الثقة، أني بمجرد وصولي سأجد "عملًا مناسبًا" في انتظاري، ويا للأسف!، تفاجأت بأن السوريين موجودون في كل الأماكن، ويعملون بأجرةٍ بسيطة جدًّا مقارنة بالمجهود الذي يبذلونه".

ويتابع حديثه: "نفد الذي كان بحوزتي، فلم أجد بدًا من الهرب إلى أوروبا، والمفاجأة السيئة أنني وقعتُ ضحية لعبةٍ كبيرة من أحد التجار هناك، وخسرت ما يزيد على 5 آلاف دولار، والآن أنتظر فتح معبر رفح كي أعود إلى غزة وأتعلم حرفة بدلًا من شهادتي الجامعية".

ويُبدد الوهم المزروع في عقول القابعين في سجن غزة بقوله: "يعتقد بعض الشباب أن الوضع خارج غزة أفضل، وأن الدول الأوربية مفتوحة للجميع، ولكن الحياة في تركيا وغيرها من الدول صعبة، بعض الشباب لا يجدون عملًا، ومنهم من لا يجدون الأموال ليشتروا الطعام، لا يوجد شيء اسمه الحصول على جنسية، هذا الأمر يحتاج لسنوات طويلة جدًّا".

عاد أدراجه

حظ أحمد نصر (32 عامًا) لم يحالفه، كسابقيه، فهو منذ صغره يحلم بالسفر إلى خارج غزة، ولكن لم تتح له أي فرصة للسفر، فكر كثيرًا في التقدم بطلبات هجرة مختلفة، ولكنه لم يفلح، وفي المرة الأخيرة قدم طلبًا للحصول على تأشيرة للسفر إلى تركيا، وانتظر المعبر أشهرًا طويلة حتى تمكن من السفر.

يروي نصر قصته: "واجهتُ صعوباتٍ كبيرة على معبر رفح، ودفعت ما يزيد على ألفي دولار في إطار ما يعرف بــ"التنسيق" لأتمكن من السفر، كنت أعتقد أن حياتي ستتغير فور الوصول إلى تركيا، ولكن تفاجأت أن الحياة في المدن الكبيرة كإسطنبول وأنقرة باهظة الثمن، وتحتاج إلى ما يزيد على ألفي دولار شهريًّا كي تعيش حياة عادية".

ويتابع قوله: "تمكنت من السفر إلى قريةٍ صغيرة في تركيا، هناك كانت الأوضاع جيدة نوعًا ما، واستطعت العمل في مصنع لــ"الليدات" الكهربائية، ولكن الأجرة بسيطة جدًا مقارنة بالأسعار المرتفعة للمنازل والطعام والشراب".

ويكمل: "توقفت عن العمل في المصنع الأول، وتوجهت إلى العمل في مصنع للشوكولاتة والحلوى الصغيرة، وكان راتبي لا يتجاوز 5 دولارات في اليوم الواحد، في المقابل هناك أعداد كبيرة من السوريين يتقاضون رواتب بسيطة جدًّا، غير أنهم يقبلون العمل ساعات طويلة".

ويمضي بالقول: "كنت أعيش في وضع مستقر نوعًا ما في غزة، وكان لدي منزل، وكانت زوجتي تنتظر أن أرسل لها التأشيرة كي تأتي للعيش معي في تركيا، لكن _يا للأسف!_ لم أستطع الاستمرار بعد أن أنفقت ما يزيد على 10 آلاف دولار خلال عام كامل هناك، وقررت العودة إلى غزة مرة أخرى".

أكذوبة كبيرة

أما الشاب عبد الله مطر (33 عامًا) فهاجر إلى ألمانيا، وكانت أمنية حياته أن يحصل على الجنسية الألمانية، يتحدث لـ"فلسطين" عن رحلته القاسية: "انتقلت من تركيا عبر مركب به مئات المهاجرين إلى أوروبا، دفعت ما يزيد على 4 آلاف دولار للتاجر، الذي كان كل همه جمع أكبر عدد من المهاجرين، للحصول على مبلغ مالي كبير".

ويتابع قوله: "كان الوضع مأسويًّا جدًّا، والمركب يوجد به ما يزيد على 600 مهاجر، كلهم يخشون الغرق، ولكن ليس أمامي فرصة للوصول إلى أوروبا سوى هذه".

ويزيد: "أهلي ساهموا بإرسال مبلغ كبير كي أتمكن من السفر إلى ألمانيا، والآن أعيش في مخيم صغير منذ عامين، أحاول الحصول على الإقامة، ولكنهم يرفضون لأنني فلسطيني، والأولوية هناك للسوريين، خمس سنوات قضيتها بين تركيا وألمانيا دون زواج أو الحصول على عمل ثابت، أصبحت شابًّا محبطًا، وأهلي يرسلون إلي النقود كل مدة بدلًا من أن أرسل إليهم أنا".

ويشير إلى أن اللغة وعدم توافر فرص عمل كبيرة للفلسطينيين في ألمانيا حالا دون أن يحظى بوضعٍ مستقر هناك، حتى إنه فكر في افتتاح مشروعٍ صغير لبيع المأكولات الشعبية، ولكنه لم يفلح، والآن بعد أن فشلت كل مخططاته يعزم على العودة مرة أخرى إلى غزة ليخبر الشباب أن أوروبا ما هي إلا "أكذوبة".