في الشهر الرابع من حملها، لم تسمع رهف عزات نبض طفلها للمرة الأخيرة في غرفة طبية، بل فقدته بين خيمة ومطبخ بدائي، وبين دلو ماء وحطب مشتعل.
رهف، 27 عاما، من مدينة غزة، نازحة في مركز إيواء غرب المدينة. كانت تنتظر مولودها البكر بشغف وخوف في آن واحد، لكنها لم تكن تعرف أن النزوح المتكرر ومشقة الحياة اليومية سيحسمان مصير حملها مبكرا.
تقول رهف وهي تحدق في الأرض لصحيفة "فلسطين": "لم أكن مريضة، لم أسقط، فقط كنت متعبة جدا. كنت أشعر أن بطني يثقل يوما بعد يوم، لكن لم يكن لدي خيار سوى الاستمرار".
حياة يومية لا تشبه الحمل
منذ نزوحها، تحولت أيام رهف إلى سلسلة أعمال شاقة. تستيقظ فجرا لتحجز دورا للمياه، تحمل الدلاء الثقيلة لمسافات طويلة، تطهو الطعام على الحطب وسط دخان خانق، وتغسل الملابس يدويا. كل ذلك وهي حامل، بلا مكملات غذائية، بلا متابعة طبية، وبلا راحة "كنت أختنق من الدخان، أشعر بدوار، أضع يدي على بطني وأقول له: اصبر معي"، تقول، ثم تصمت للحظات قبل أن تضيف: "لكن يبدو أنه لم يستطع".
في أحد الأيام، وبعد ساعات من حمل المياه والطهي، شعرت بآلام حادة في أسفل بطنها. تجاهلتها في البداية، كما اعتادت تجاهل كل شيء. لكن النزيف لم يتوقف "عندما رأيت الدم، عرفت أنني أفقده. لم أصرخ، لم أبك، فقط جلست على الأرض"، تقول رهف.
رهف أجهضت جنينها في شهرها الرابع. لم يكن هناك أحد معها. زوجها يعمل حتى ساعات متأخرة من اليوم لتأمين الحد الأدنى من احتياجات الأسرة. لا أم، لا أخت، لا قريبة تساعدها على تخفيف الحمل عنها.
"كنت وحدي تماما. حتى في أكثر لحظة احتجت فيها ليد تمسكني، لم يكن هناك أحد"، تقول.
تصف كيف نُقلت إلى نقطة طبية بدائية داخل مركز الإيواء، حيث أكد لها الطبيب أن الجنين فارق الحياة. لم يكن هناك إمكانيات، ولا أدوية، ولا حتى كلمات مواساة "قال لي الطبيب: جسمك مرهق. هذا ليس أول إجهاض نراه"، تروي رهف.
وجع لا يراه أحد
بعد الإجهاض، عادت رهف إلى الخيمة نفسها، والأعمال نفسها، لكن بجسد أضعف وقلب أثقل. لا وقت للحزن الطويل في حياة النزوح "في الليل، عندما ينام الجميع، أتخيل شكله. أسأله: هل كنت ستولد هنا؟ هل كنت ستعيش؟"، تقول وهي تمسح دموعها.
رهف ليست حالة فردية. قصتها تشبه عشرات النساء اللواتي فقدن أجنتهن بصمت، تحت ثقل النزوح، وسوء التغذية، والأعمال التي لا تتوقف حتى أثناء الحمل.
"لم يقتلوه بقنبلة، قتلوه بالتعب"، تقول رهف بمرارة.
في غزة، لم يعد الحمل رحلة انتظار للحياة، بل اختبارا قاسيا للبقاء. جسد المرأة لم يعد محميا، والجنين لم يعد آمنا حتى في رحم أمه.
تقول رهف في ختام حديثها "كنت أحلم أن أسميه، أن أحمله بين يدي. اليوم، كل ما أتمناه أن لا تعيش امرأة أخرى ما عشته أنا".
ما حدث مع رهف غزات لم يكن استثناء، بل جزءا من مشهد أوسع يتكرر يوميا بين خيام ومراكز إيواء غزة. فقصتها، التي انتهت بإجهاض في شهرها الرابع نتيجة النزوح المتكرر والإرهاق وسوء الظروف المعيشية، تعكس ما تؤكده وزارة الصحة من تصاعد مقلق في فقدان الأجنة وانهيار صحة النساء الحوامل.
جسد بلا غذاء
لم تكن مريم عوض تعرف أن الجوع يمكن أن يسقط جنينا من رحم أمه، لكنها عرفته حين فقدت طفلها قبل أن يكتمل، لا بسبب مرض، ولا حادث، بل لأن جسدها لم يعد يملك ما يكفي ليطعم اثنين.
مريم، 25 عاما، نازحة من شمال قطاع غزة، وتعيش اليوم في مركز إيواء مكتظ غرب مدينة غزة. كانت في شهرها الخامس من الحمل عندما بدأ جسدها ينهار بصمت، فيما كانت تحاول أن تبقى واقفة في طوابير الطعام والمساعدات.
تقول مريم لـ"فلسطين": "كنت أجوع كثيرا، لكنني كنت أقول لنفسي: المهم أن يعيش الجنين. لم أكن أعرف أنني أنا وهو نتقاسم الجوع نفسه".
طيلة أشهر حملها، لم تحصل مريم على وجبة متكاملة واحدة. غذاؤها اليومي اقتصر على الخبز، أحيانا مع القليل من الأرز أو العدس، ودون أي مصدر للبروتين أو مكملات غذائية. فقدت وزنها بسرعة، وأصبحت تعاني من دوار مستمر وتعب حاد "كنت أشعر أن قدمي لا تحملاني. أحيانا أسقط، لكنني أخجل من قول إنني حامل، لأن الحمل صار عبئا في هذا المكان"، تقول.
لم تكن هناك متابعة طبية، ولا تحاليل دم، ولا فيتامينات. كل ما كانت تملكه هو الخوف، ورغبة عنيدة في حماية جنينها.
في أحد الأيام، وبعد ساعات من الوقوف في طابور مساعدات لم تحصل منه على شيء، عادت مريم إلى الخيمة وهي تشعر بتقلصات شديدة في أسفل بطنها. تجاهلت الألم، كما تجاهلت الجوع من قبل، لكن النزيف كان أسرع من قدرتها على التحمل.
"عندما شعرت بالدم، عرفت أن الجنين يرحل. قلت في سري: سامحني، لم أستطع إطعامك"، تقول مريم.
تم نقلها إلى نقطة طبية داخل مركز الإيواء، حيث أكد لها الطبيب أن الجنين توفي بسبب سوء التغذية الحاد ونقص الحديد.
"قال لي الطبيب: جسمك فارغ. لم يعد قادرا على الحمل"، تروي مريم.
أمومة مؤجلة
مريم أجهضت جنينها الأول. بعد الإجهاض، لم تحصل على علاج حقيقي، فقط مسكنات ألم بسيطة ونصيحة واحدة: "ارتاحي". نصيحة بدت ساخرة في مكان لا يعرف الراحة.
"كيف أرتاح وأنا لا أجد ما أكله؟"، تقول مريم بمرارة.
تصف كيف تنظر اليوم إلى بطون النساء الحوامل في المركز، وتشعر بالخوف عليهن أكثر من الغبطة "أصبح الحمل هنا مخاطرة. ليس كل من تحمل ستنجب".
في غزة، لم يعد الجوع مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل صار سببا مباشرا لفقدان الأجنة. سوء التغذية لا يسرق صحة الأم فقط، بل يقطع الخيط الرفيع الذي يربط الجنين بالحياة.
تقول مريم في ختام قصتها "لم أخسر طفلي لأنني لم أرده، خسرته لأن العالم قرر أن يجوعنا".
ارتفاع معدلات الاجهاض
يحذر مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، من تحولات خطيرة تضرب جوهر الحياة في القطاع، مع تسجيل ارتفاع لافت في حالات الإجهاض، مقابل انهيار غير مسبوق في معدلات الولادة، مشيراً إلى أن عدد المواليد انخفض بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي، إذ تراجع المعدل الشهري من نحو 26 ألف ولادة قبل الحرب إلى ما يقارب 17 ألفا فقط اليوم.
وقال البرش لـ"فلسطين" إن هذا التراجع "ليس رقما عابرا، بل مؤشر على تدمير ممنهج لقدرة المجتمع الفلسطيني على الاستمرار والتجدد"، مشيرا إلى أن الحرب لا تستهدف الحاضر فحسب، بل تضرب مستقبل غزة الديمغرافي من جذوره.
وأشار إلى أن انخفاض وزن المواليد لم يعد حالات فردية، بل تحول إلى ظاهرة واسعة داخل المستشفيات والنقاط الطبية. ويعزو البرش ذلك إلى سوء التغذية الحاد الذي تعانيه النساء الحوامل، في ظل منع إدخال المكملات الغذائية الأساسية، وانعدام البروتينات والفيتامينات الضرورية لنمو الجنين.
وأضاف: "نستقبل يوميا مواليد بأوزان خطيرة، بعضهم لا يتجاوز كيلوغرامين، وأحيانا أقل، بسبب أن الأم نفسها تعاني من الجوع وفقر الدم والإرهاق الشديد".
ولا يقتصر الأمر، وفقا للبرش، على الإجهاض المرتبط بالإرهاق وسوء التغذية، بل يمتد إلى استهداف مباشر ومنهجي للبنية التحتية الخاصة بالصحة الإنجابية في غزة. إذ يشير إلى أن قوات الاحتلال قصفت عددا من مراكز التخصيب، ما أدى إلى تدمير آلاف الأجنة المخصبة المحفوظة داخلها.
ويؤكد البرش أن قصف مركز "البسمة" للتخصيب أدى إلى احتراق أنابيب النيتروجين السائل، وهو العنصر الأساسي لحفظ الأجنة، ما تسبب بتدمير نحو أربعة آلاف جنين مخصب بالكامل.
ويضيف: "نحن لا نتحدث عن معدات أو مبان فقط، بل عن حياة كانت محفوظة، عن أجيال كاملة تم محوها وهي في أدق مراحلها".

