فلسطين أون لاين

غزة الوحيدة في زمن العواصف!

لا يحتاج المشهد في غزة الى كثير شرح، امطار شتوية عادية كانت كافية لاغراق خيام النازحين، وكشف ما هو ابعد من هشاشة القماش والبلاستيك، ما انكشف فعليا هو نموذج سياسي كامل، يقوم على ادارة الكارثة لا باعتبارها فشلا، بل كأداة حرب واستنزاف طويلة المدى، هنا لا تنتهي الحرب مع توقف القصف، بل تستمر عبر تفكيك ما تبقى من مقومات الحياة نفسها.

الاحتلال لا يكتفي بالتدمير العسكري، بل ينظم الانهيار، القصف الذي دمر المدن، والحصار الذي يمنع اعادة الاعمار والبناء، والقيود على المعابر التي تحول النزوح الى حالة دائمة، في هذا السياق، تصبح الخيمة بديلا قسريا عن البيت، ويصبح الشتاء جزء من المعركة، البرد، المرض، الجوع، وانعدام الامان ليست نتائج جانبية، بل عناصر ضغط محسوبة، تهدف الى انهاك المجتمع، ومعاقبته، لا فئة بعينها، انها منطقة رمادية مقصودة، فلا قتلا جماعيا يفرض تدخلا حاسما، ولا حياة طبيعية تسمح بالتعافي.

العالم، في معظمه، اختار التكيف مع هذا المنطق، والسكوت عليه، فالاغاثة تحولت الى اداة ادارة للازمة، لا الى وسيلة لكسرها وانهائها، شاحنات مساعدات، بيانات قلق، ومسارات انسانية متجزأه، كلها تبقي الناس احياء دون ان تمس اسباب موتهم البطيء، وهكذا تصبح الانسانية وظيفة ادارية، وتنقلب الكارثة الى واقع قابل للتطبيع، بل الى نموذج يمكن تكراره.

على هامش هذا المشهد القاتم، برزت الرياضة، كمساحة نادرة لوحدة عابرة للجغرافيا، من داخل فلسطين وخارجها، من المخيمات والشتات، وجد كثيرون في المنتخب تمثيلا رمزيا لشعب واحد رغم التمزق، لكن هذه المساحة نفسها تحولت سريعا الى ساحة خلاف، حين تعرض لاعب من ابناء قطاع غزة لحملة تحريض لأنه هتف للمقاومة، السؤال هنا ليس انفعاليا، بل سياسيا؛ هل كان مطلوبا منه ان يشتم المقاومة مثلا ليكون مقبولا؟ ومن يحدد معنى او مجالات "الحياد" في سياق شعب يعيش تحت احتلال وحرب استنزاف؟

الحياد يكون في القضايا الداخلية، بين تيارات وبرامج ورؤى فلسطينية مختلفة، حيث التنوع مشروع والاختلاف طبيعي، اما الصراع مع الاحتلال فليس مجالا للحياد، لانه ليس خلافا سياسيا عاديا، بل واقع قهر واقصاء، ورفض مشاريع الاحتلال ليس موقفا "فئويا"، بل الحد الادنى من الاجماع الوطني، والمطالبة بالحياد في هذا السياق تعني عمليا مطالبة الضحية بان تتجرد من حقها في رفض من يسلبها ارضها وحياتها، وهو حياد زائف لا يخدم الا الامر الواقع.

فهل المنتخب منتخب فصيل او تيار سياسي؟ ام منتخب شعب يعيش صراعا مفتوحا؟ محاولة نزع السياسة عن الرياضة في الحالة الفلسطينية ليست براءة، بل تزوير، الرياضة هنا ليست ترفا، بل احدى ساحات التمثيل القليلة المتبقية، اذا استمر هذا المنطق، فهل سيطلب من اللاعبين مستقبلا الاعتراف بالاحتلال؟ وهل ستصبح المشاركة في المنتخب شبيهة بالترشح في الانتخابات المحلية، محكومة بسقف سياسي وامني مسبق؟

هذه الاسئلة تعيدنا الى الصمت الرسمي، صمت لم يعد عجزا فقط، بل خيارا قائما على الانتظار، انتظار دور يعاد انتاجه دوليا، ولو على انقاض غزة، خطاب محسوب، تحركات محدودة، وحرص دائم على عدم كسر السقف المرسوم، وفي هذا السياق، تصبح حتى الرياضة مساحة يجب ضبطها لا التعبير من خلالها، فالمشكلة ليست في هتاف لاعب، بل في ازمة تمثيل شاملة، اذ كيف يمكن اقناع من يغرقون في خيام النزوح ان التزامات منظمة التحرير ستحميهم، وهم يشاهدون الضفة تستباح، والاستيطان يتمدد، والقدس تتهود، وارهاب المستوطنين بلا حد؟ كيف يطلب من لاعب جاء من غزة المحاصرة، ان يتحدث بلغة باردة، بينما اهله تحت النار؟ هنا تتفكك المسافة بين الخطاب والواقع، ويظهر العجز في اوضح صوره.

اما العرب، فالمشهد لا يقل قسوة، عواصم انتقلت من موقع الفاعل الى موقع المتلقي، بيانات تضامن، ادوار اغاثية، وحضور دبلوماسي بلا وزن حقيقي، الفراغ العربي جعل كل مساحة فلسطينية عامة، من السياسة الى الرياضة، عرضة للضغط والاشتراط، وحين يغيب الفعل العربي، يصبح الاحتلال اكثر قدرة على تثبيت معادلته.

وسط ذلك كله، يبدو الاحتفاء العربي بالكؤوس والبطولات مفارقة موجعة، ماذا سيفيد العرب كأس يرفع في مدرجات مضاءة، بينما يسقطون في المعارك الحقيقية التي تحدد معنى وجودهم؟ المعركة ليست رياضية، بل معركة ان يكونوا امة قادرة على الفعل لا مجرد جمهور، لا احد يطالب بحرمان الناس من لحظات فرح، لكن ما قيمة الفرح حين يصبح بديلا عن القرار، وما معنى الانتصار حين ينفصل عن الكرامة؟ الامم لا تقاس بعدد البطولات، بل بقدرتها على حماية نفسها وقضاياها، وحين تخسر هذه القدرة، يصبح الاحتفال غطاء لهزيمة اعمق.

المصدر / فلسطين أون لاين