فلسطين أون لاين

حرب ولكن... بلا جبهة عربية!

لم يعد التعاون العربي مع الاحتلال استثناء ولا انحرافا سياسيا عابرا يمكن تفسيره بضرورات سياسيه او تكتيكية، فما يجري اليوم يكشف عن نمط متكامل من العلاقات يتجاوز التطبيع "التقليدي" ليصل الى مستوى الشراكات الاقتصادية والأمنية العميقة التي تعيد تعريف موقعه في الإقليم، نحن امام بنية كاملة يعاد تشكيلها، تقوم على استثمار الاحتلال في تفكيك المنطقة وتحويل توتراتها الداخلية الى مصدر ربح واستقرار له، فالاحتلال لم يعد يكتفي بإدارة صراعه مع الفلسطينيين بوصفه شأن داخلي، بل بات لاعبا مركزيا في هندسة الخوف العربي وتوجيهه بعيدا عن وجهته الطبيعية.

في هذا السياق لا يمكن فصل صفقات السلاح والغاز ولا ما هو اخطر منها - من تعاون غير معلن - عن مشروع اوسع يسعى لدمج الاحتلال في قلب المنظومة الاقتصادية والامنية العربية، فالغاز هنا ليس مجرد طاقة، والسلاح ليس مجرد وسائل قتالية، فكلاهما يعيدان تعريف العدو والصديق، ويحولان الاحتلال من كيان استعماري الى شريك - لا غنى عنه - في معادلات الامن والاستقرار العربي، وهكذا يصبح المساس به مساسا بمصالح دول عربيه قبل ان يكون موقفا سياسيا.

الاحتلال يدرك جيدا ان اقوى اسلحته ليس التفوق العسكري، بل قدرته على شق الامة، وكسر كلمتها، وتغذية انقساماتها وتحويلها الى حالة دائمة من القلق، وسباق محموم للتسلح، وعوضا عن كونه الخطر، جرى ويجري تضخيم اخطار أخرى، بعضها ربما تكون حقيقية، واكثرها مُهندَسة او متخيلة، جعلت العربي مطالبا - دوما - بالاستعداد لمواجهة ابن جلدته او شريكه في اللغة والدين والجغرافيا، معادلة تجعل من الاحتلال وسيطا وخبيرا، وموردا للسلاح والحلول الامنية.

صفقات السلاح الاخيرة تكشف هذا المنطق بوضوح، فالاحتلال لا يبيع فقط منظومات دفاعية او تقنيات مراقبة متطورة، بل يبيع سردية كاملة، سردية تجعل امن الانظمة مرتبطا بالتسلح المستمر والتعاون معه، وهكذا تتحول حرب الإبادة على الفلسطيني من قضية عربية الى عبء أخلاقي، وشهادة "جودة" على فاعلية السلاح، وحين تشتري دول عربية اسلحته المتطورة او تصنّعها، لا تشتري تقنيه فقط، بل تستثمر في خبرة قتاليه تم اختبارها على جسد الفلسطيني، لتجعل منه مادة تسويقية، لا جريمة، فهذه الصفقات تعيد تمويل الصناعات العسكرية، محولة الفشل الميداني والجريمة الى فرصه اقتصاديه، وتعوضها عن عقود الغيت، فلا يخرج الاحتلال منها ضعيفا، بل ويروج له كمركز تكنولوجي امني متقدم يخدم الاستقرار والسلم.

في الوقت ذاته يتم استخدام الاقتصاد كأداة ترويض، صفقة الغاز مثال على ذلك، فربط امن الطاقة العربي بالاحتلال يعني تحصينه ضد اي ضغط سياسي، وهكذا تنقلب المعادلة، ويصبح الاحتلال جزء من الامن القومي العربي، بينما يظل الفلسطيني عبئا سياسيا يجب احتواؤه بفتات المساعدات، لا بإحقاق الحقوق.

عامين واكثر من قتل غزة وتجويعها كشفت عن ابعاد اخرى لهذا المسار، *الممرات البرية والبحرية والجوية العربية استخدمت بدرجات مختلفة لخدمة الاحتلال، سواء عبر نقل بضائع او أسلحة او حتى عبور مباشر، واكثر من ذلك، سماء العرب كانت ساحة حرب لدرء المخاطر عنه، جرى تمويلها من جيب المواطن العربي، كل ذلك جرى بينما كانت القمم تعقد، والبيانات تصدر، معبرة عن تضامنها مع غزة*، تناقض لا يعكس ازدواجية خطاب فقط، بل وتحولا عميقا في منظومة القيم والأولويات العربية.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس من خان ومن تواطأ، بل ما الذي جرى لفكرة الامة؟ هل بقي بقية من مفهوم الامة في ضوء هذا المشهد؟ هل حكامها اليوم امتداد لمن سبقوهم؟ او ورثة تاريخ طويل من الصراع ضد الاستعمار والهيمنة؟ لان فما نراه اليوم هو قطيعة معرفية وتاريخية، اخلاقية ودينية، حيث جري استبدال الذاكرة الجماعية بالمصلحة والهوية بالحسابات الضيقة.

الاحتلال يدرك ان اخطر ما يمكن ان يواجهه هو وحدة الامة، لذلك استثمر في ابقاء العرب في حالة خوف دائم، واستعداد عسكري، لا يوجه نحوه، بل نحو بين مكونات الامة، وهذه هي معركته الحقيقية، وهي المعركة التي "نجح" فيها حتى يومنا هذا.

هذا ما كشف، وما خفي اعظم، لان ما يعلن عنه من صفقات ليس سوى قمه جبل الجليد، او يسر يسير من شبكة اوسع من التنسيق والمصالح، وكسر ذلك لا يكون بالانفعال او الشعارات، بل بكشف الوقائع، واعاده ربط الاقتصاد بالأخلاق، والسياسة بالمساءلة، بإعادة تعريف الامن العربي على اسس مختلفة، امن لا يرى في الفلسطيني تهديدا، ولا في الاحتلال شريكا، ودون ذلك، سيبقى العرب دون الأمم، يتسلحون لمواجهة بني جلدتهم، وسيبقى الاحتلال المستفيد الاكبر من هذا الخراب المنظم.

المصدر / فلسطين أون لاين