التفّت العائلة في منتصف البيت تستقبل طردًا غذائيًا من الخضراوات. كان رامي أبو شاويش (52 عامًا) يتوسّط زوجته سحر (44 عامًا) وأبناءه: بتول (20 عامًا)، ومحمد (18 عامًا)، وتيما (16 عامًا)، ويوسف (14 عامًا)، وحبيبة (11 عامًا). كان الجميع يرحب بهذا الطرد كما لو أنهم يستقبلون ضيفًا عزيزًا بعد زمن طويل من المجاعة.
غادرت بتول المجلس إلى غرفتها، وجلست على سريرها تراقب من باب الغرفة ضحكات العائلة ولمّتهم، عصر يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. فجأة رأت ضوءًا أحمر يقتحم المنزل، يختلف عن ضوء النهار. تلاه دخان كثيف حجب الرؤية، ثم وجدت نفسها عالقة في الظلام، والركام يحاصر جسدها ويديها. لم تعد ترى شيئًا سوى السواد، وكانت مكبّلة بالكامل تحت الأنقاض، ولم يتبقَّ لها سوى فراغ بسيط منحها قدرة محدودة على التنفس لدقائق.
نطقت بتول الشهادتين، لا تعلم في أي ركن من البيت عالقة، لكنها أيقنت أن قصفًا إسرائيليًا طال منزل العائلة في انتهاك صارخ لوقف إطلاق النار، ارتُكبت على أثره مجزرة بشعة. نادت على والديها وإخوتها واحدًا تلو الآخر، لكن لم يردّ عليها سوى صدى صوتها.
كانت تسمع أصواتًا من الأعلى، فهمت منها أن المنقذين ينتشلون أفراد عائلتها. توقّف قلبها عند سماع أحدهم يهمس لآخر: "هذي البنت اسمها حبيبة.. أشلاء". حبيبة التي كانت قبل دقائق في المطبخ تعدّ الطعام لشقيقتها بتول استعدادًا للغداء.
الناجية الوحيدة
كانت خطوات المنقذين فوق الركام الذي دفنت فيه بتول حيّة أشبه بطوق نجاة من موت يطبق على أنفاسها. صرخت: "أنا هان.. طلعوني!" وكرّرت النداء حتى طلب أحدهم من زملائه الصمت لتحديد مصدر الصوت: "إنتِ مين؟" فأجابته: "بتول"، دون أن تدرك أنها الناجية الوحيدة من عائلة مكوّنة من سبعة أفراد.
حاول المسعفون تهدئتها. قال لها أحدهم: "بدنا شوي وبنوصلِك". بدأوا بإزالة الأنقاض، وتبيّن أنها كانت قريبة من السقف. تروي بتول لصحيفة "فلسطين" لحظة خروجها من الظلام إلى نار الفقد: "طلبت منهم رفع الركام عن يديّ بهدوء، كنت مكبّلة بالكامل ومعلّقة، ثم نقلوني إلى سيارة الإسعاف".
كانت الصدمة الأكبر داخل سيارة الإسعاف، حين وُضعت بين أكفان الشهداء. تقول: "سألت عمّي إن كانوا أهلي، فقال إنهم من الجيران، لكن شيئًا داخلي أخبرني أنهم عائلتي. حاولت فتح أحد الأكفان، فأمسك يدي وقال: 'إيش بدّك تشوفي؟ الجثامين مشوّهة'".
نُقلت إلى مستشفى شهداء الأقصى، حيث تبيّن وجود جرح عميق في يدها وصل إلى العظم، وانتظرت ساعتين حتى تمكن الأطباء من خياطته. بعد تضميد الجرح، نُقلت إلى غرفة المبيت، فوجدت عشرات الأقارب حولها، دون أن ترى والديها أو إخوتها.
سألت عمّتها: "كيف ماما؟" فأجابتها: "بخير، بتستنى تشوفِك". ثم دخل عمّها وأخبرها بالحقيقة: عائلتها كلها استشهدت، ووالدها وحده كان في العناية المكثفة بحالة حرجة. بعدها نُقلت إلى المستشفى البلجيكي لاستكمال العلاج.
في صباح اليوم التالي، أصرت بتول رغم جراحها على توديع عائلتها. عادت بسيارة إسعاف إلى مستشفى شهداء الأقصى، ووقفت أمام ستة أكفان تلقي نظرة الوداع الأخيرة. كانت الأكفان البيضاء تخفي خلفها وجوهًا محترقة وأجسادًا ممزقة. جسد أمها وحده بدا شبه كامل، لكنها لم تتجرأ على فتح أي كفن، مفضلة الاحتفاظ بصورتهم الأخيرة في ذاكرتها.
أغمضت عينيها، وارتفع الدعاء من قلبها المفجوع: "اللهم ارحمهم، اللهم صبّرني".

تتابع بصوت منكسر: "كنت أشعر أنني في حلم. لا أصدق أنني أحتضن أكفان عائلتي. كنا نرتّب البيت ونضحك للحياة. ظننا أن الحرب انتهت. قُصفت شقتنا في برج عين جالوت، وعدنا إلى بيتنا القديم بعد إصلاحه، ويوم المجزرة كنا نرتّبه من جديد… انتهى كل شيء، وبقيت وحدي".
الأمل الأخير
بعد وداع عائلتها، خضعت بتول لعملية جراحية لإعادة وصل الأنسجة والأوردة في يدها. زارت والدها الذي كان يرقد في غيبوبة ويتنفس عبر جهاز أكسجين صناعي. تحكي عنه: "أمسكت يديه وحدثته، شعرت أن قلبه يسمعني. قلت: بابا، ما ضلّش غيري أنا وإنت… قوم واسندني. بكيت كثيرًا، وحدثته عن ماما وإخوتي".
في اليوم التالي، أُبلغت باستشهاده. صدمة ثانية. شاركت في تشييعه، تمددت بجانبه، واحتضنته، وقرأت سورة "يس" بصوت مرتفع حتى وُري الثرى… ثم عادت وحدها.
تستحضر صباح يوم المجزرة: "طلب أبي من أمي إجازة من العمل. في الصباح احتضنتني أمي، وضعت رأسها على حجري وغفت، وقالت لي: 'رضي الله عنك… أنتِ بكفّة'. كنا كصديقتين، نرتّب البيت سويًا. بعد قصف شقتنا نزحنا سنة وثلاثة أشهر، ثم أصلحنا بيت النصيرات وفرحنا به. اعتقدنا أن الدم توقف… لكنه نزف في بيتنا".
بعد وقف إطلاق النار، عادت الأم إلى عملها، وسُجّل الإخوة في المدارس. عمّ الفرح البيت بنجاح محمد في الثانوية العامة، وكانت حبيبة تحلم بدراسة الطب.
"كنا نحب بعضنا… نحن عائلة مترابطة".
أما تيما فكانت تحلم أن تصبح طبيبة قلب، وتعشق التصوير والموضة، وكانت تؤكد لبتول أنها ستتفوق في "التوجيهي". تقول بتول: "كانت الأقرب إلى قلبي… تركتني لوحدي".
وتصف شقيقها يوسف (14 عامًا) بـ"الصديق الوفي"، الذي يوقظها لصلاة الفجر ويلعب معها دائمًا، وتلقّبه "حبيب البيت". أما محمد فكان يخطط لدراسة الأمن السيبراني، وكان حنونًا، يناديها "حبيبة الروح" ويغدق عليها الهدايا.
اليوم، تقيم بتول في بيت عمّها، تحاول التعافي من الإصابة. وفي كل مرة تفتح نافذة تطل على منزلهم المدمر، تتوهج الذكريات: روتينهم، ضحكاتهم، وأحلامهم. وتوقن في سرّها أن "العائلة هي الحياة".
تدرس بتول الإعلام الرقمي (الوسائط المتعددة) في جامعة الأزهر بغزة، وتحاول العودة إلى مقاعد الدراسة، مؤمنة أن العلم سلاحها في مواجهة الفقد، وأن شهادتها ستظل شاهدة على مجزرة أبادت عائلة كاملة، ولم تُبقِ منها سوى ناجية واحدة.

