في الجزء الاول من المقال ظهرت الحقائق التالية:
-ان فلسطين منذ القدم قلب العالم العربي بل والعالم أجمع بالتالي هي مركز صناعة القرار والحدث العالمي .
-تحرير فلسطين "يعني إقامة السيادة الإسلامية فيها " يلزمه قيادة صالحة ونيه خالصة لوجه الله وحده ؛ تلتزم هذه القيادة باتباع أوامر الله مع الاخذ بالاسباب .
-من يسعى لتحرير فلسطين سيقابل بالتأكيد محن عظيمة وكيد من الأعداء تزول منه الجبال فعليه الاستعانة بالله والصبر والثبات والعمل وبذل التضحيات الجسام .
ـ زمن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان المسير الى فلسطين انطلاقا من العراق وكان عبارة عن تحرير بالدعوة والموعظة الحسنة.
نعود لإكمال قصة دخول الأرض المقدسة.
يظهر أن يوسف وإخوته أبناء يعقوب الاثنى عشر "إسرائيل" نعموا بحرية العبادة في مصر وكان لهم دورهم في الدعوة إلى التوحيد لمدة ثلاثة قرون متواصلة غير أن الأمر لم يستمر على حاله في أجيالهم اللاحقة فوقع بنو إسرائيل تحت الاضطهاد الفرعوني حتى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل منها إلى الأرض المقدسة في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
لقد كان بنو إسرائيل في تلك الفترة هم أهل الحق وحملة راية التوحيد، وكان فرعون مصر في ذلك الزمان متكبراً متعجرفاً يدعي الألوهية، وكان مفسداً يضطهد بني إسرائيل فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}، وقد ولد موسى عليه السلام في هذا الجو وتربى في بيت فرعون في تدبير رباني محكم، وقصة موسى ونشأته ودعوته لفرعون وخروجه ببني إسرائيل وهلاك فرعون أشهر من أن تروى.
قدر الله سبحانه أن يعطي تلك الفئة المؤمنة في ذلك الزمان أرض فلسطين {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
وأرسل موسى عليه السلام إلى فرعون بهذا الأمر، يعاونه في ذلك أخوه هارون الذي بعث رسولاً أيضاً {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين، حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل}، غير أن فرعون يأبى ويتكبر ولا يؤمن بالآيات والمعجزات التي جاء بها موسى، حتى أنه قد آمن السحرة الذين حشدهم فرعون بدعوة موسى، ويسقط في يد فرعون، ويبدو أن الذين أظهروا إيمانهم وانضموا إلى بني إسرائيل كانوا عدداً محدوداً من أولاد وفتيان بني إسرائيل وكان إيمانهم مقروناً بخوف من أن يفتنهم فرعون {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}. ثم إن موسى عليه السلام قاد من آمن من قومه شرقاً فأتبعهم فرعون وجنوده، وحدثت قصة انشقاق البحر وإنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين}.
الروايات التاريخية تتباين في ارقام واعداد بني اسرائيل وفروعهم الاثنى عشر سبطا وهم احفاد يعقوب عليه السلام اللذين خرجوا من مصر في طريقهم إلى الأرض المقدسه ومن الصعب ترجيح رقم معين ؛ لكنهم أكثر من 100الف تقريبا .والله اعلى واعلم .
اتفق المؤرخون ان هذه الفترة توافق حكم "رعمسيس الثاني" المشهور في هذا العصر بـ"رمسيس الثاني"، ومن تقدير الله أن جثة هذا الفرعون معروضة في أحد المتاحف المصرية حتى الآن، وهذا يذكرنا بقوله سبحانه {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون}.
وبعد إنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل تبرز فصول معاناة موسى وهارون معهم، بسبب مخالفات بني اسرائيل وحبهم الحياة وتعلقهم بمتاع الدنيا ويظهر من صفات هؤلاء كثرة المعاصي والاثام وضعف الإيمان والجهل والجبن الشديد ، فما كادوا يخرجون من البحر حتى أتوا على قوم يعبدون أصناماً، {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة }، ثم عندما يذهب موسى لميقات ربه يعبد قومه العجل رغم وجود اخيه هارون بينهم !! {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي}، وكادوا يقتلون هارون عندما نهاهم عن كفرهم وهو الذي قال لأخيه موسى {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} وغيرها من المواقف.
ثم يقود موسى عليه السلام بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة 1224ق.م .
ويقول لهم {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}،
هنا لطيفة " ـ كتبها الله لاتباع الانبياء في زمانهم المؤمنون بالدين الحق وليس ميراث قومي أوعرقي بل ميراث ايماني بحت " .
ولكن بني اسرائيل يختارون الارتداد على أدبارهم، {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}، ولا ينفع فيهم النصح بوجوب اتباع أمر الله بالجهاد في سبيله فيكررون، {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}، ويعلق سيد قطب رحمه الله على موقف بني إسرائيل هذا فيقول :"إن جبلة يهود لتبدو هناك على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل، إن الخطر ماثل قريب، ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب الأرض، وأن الله قد كتبها لهم، فهم يريدونه نصراً رخيصاً، لا ثمن فيه، ولا جهد فيه، نصراً مريحاً يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى" . . "وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون، ويفزعون من الخطر أمامهم، هكذا في وقاحة العاجز لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان"، {فأذهب أنت ربك!} فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال، {إنا ها هنا قاعدون}، لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد، ودونها لقاء الجبارين، هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام، نهاية الجهد الجهيد، والسفر الطويل، واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بين إسرائيل!.
ويتألم موسى عليه السلام ويلجأ إلى ربه {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}، ويستجيب الله لنبيه {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض}، وهكذا يحكم عليهم بالتيه بعد أن كانوا على أبواب الأرض المقدسة، ويظهر أن الله سبحانه قد حرمها على هذا الجيل من بني إسرائيل حتى ينشأ جيل صلب غيره يشتد عوده في جو من خشونة الصحراء، فهذا الجيل "أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل".
وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يستطيع دخول الأرض المقدسة، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن موسى عندما حان أجله قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لو أني عنده لأريتكم مكان قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر".
ومما سبق نستنتج التالي:-
1- تحرير فلسطين يتحقق في ظل قيادة صالحة تقود جيل صالح تم تربيته على الالتزام واتباع أوامر الله واجتناب نواهيه
2- هذا الجيل الصالح يجب أن يسعى لله والدار الآخرة وتكون الدنيا والتعلق بها تحت قدميه ويتحلى بإيمان عميق واخلاق وكفاءة وعلم وشجاعة وقوة وبأس شديد ؛ والقوة المقصودة هنا في ثلاثة محاور.
- قوة الإيمان والعقيدة الصحيحة .
- قوة الوحدة والتنظيم والارتباط
- قوة التدريب والإعداد و الساعد والسلاح .
3-زمن إبراهيم عليه السلام كان تحرير فلسطين وإقامة منابر الدعوة فيها بالحكمة والموعظة الحسنة فكان فتحا دعويا ' تم نسخ ذلك الحكم زمن موسى عليه السلام وأصبحت المواجهة العسكرية حتمية لتحرير فلسطين ومن لم يلتزم بأوامر الله من جهاد النفس ثم جهاد الاعداء لن يفلح في دخول الأرض المقدسه محررا حتى لو كان القائد هو نبي الله موسى من اولو العزم من الرسل .
4- بوابة فلسطين الجنوبية الإقليمية الكبرى هي دولة مصر العربية الشقيقة بالتالي يجب هنا أن يكون النظام في مصر جبهة مساندة مؤيدة لمشروع تحرير فلسطين ؛ وإن لم يكن كذلك ستبقى محاولات تحرير فلسطين بدون مصر ضعيفة الأثر ، لان مصر هي الجبهة الاقوى وأشد روافد التحرير لأنها تعطي زخم مادي وبشري كبير لدعم الأرض المقدسه .

