تشهد الضفة الغربية موجة غير مسبوقة من اعتداءات المستوطنين، يربطها خبراء فلسطينيون بتحويل النصوص التوراتية إلى إطار مرجعي يسوِّغ التوسع الاستيطاني والعنف الميداني. ويبدو أن هذه الاعتداءات لم تعد مجرد حوادث منفردة، بل تمثل جزءًا من بنية تزداد تماسكا تجمع بين التوراة والسياسة والأمن.
ويذهب مراقبون إلى أن استدعاء الموروث التناخي (العقائدي) في الخطاب السياسي الإسرائيلي، وتمدد التيار القومي–الديني داخل مؤسسات كيان الاحتلال، أسهما في تحويل بعض النصوص التوراتية إلى "مشروعية رمزية" لدى قطاعات من المستوطنين، تُسقط القصص الدينية القديمة على واقع الضفة الغربية المعاصر.
هذا التحويل من خطاب ديني إلى ممارسة ميدانية ترافق مع تصاعد حاد في الاعتداءات. فخلال أكتوبر/2025 وحده وثق مركز معلومات فلسطين "معطى" 6870 انتهاكا، نتج عنها 14 شهيدا و301 مصاب، مما جعل الشهر واحدا من أكثر الأشهر دموية خلال العامين الأخيرين.
أما مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فقد سجل الشهر الماضي 264 اعتداء للمستوطنين بمعدل 8 اعتداءات يوميا، وهي أعلى حصيلة شهرية منذ بدء التوثيق عام 2006.
في هذا السياق، يقول ديمتري دلياني، رئيس التجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة، إن "المشروع الصهيوني منذ نشأته ارتبط بتصور ديني سياسي يشرعن التوسع الاستيطاني"، وإن الاستناد إلى نصوص دينية يلعب دورا محوريا في تقديم العنف كفعل مشروع.
ويرى دلياني أن الاعتداءات اليومية ليست مجرد انفلات أمني، بل ترجمة مباشرة لبنية فكرية تدمج بين العقيدة الدينية والاستعمار الإحلالي، مشيرا إلى أن المستوطنين يتحركون أحيانا باعتبار الهجمات واجبا دينيا وسياسيا في آن.
ويشير أيضا إلى أن التحالف المتنامي بين مؤسسات دينية وأحزاب يمينية في إسرائيل صنع مظلة حماية سياسية وأمنية للمستوطنين، وأن غياب المساءلة القانونية يشجع على تصاعد العنف.
وتوقف دلياني في حديثه لـ "فلسطين أون لاين" عند خطابات رسمية يستخدم فيها قادة سياسيون نصوصا توراتية بصورة مباشرة، مثل خطاب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في أكتوبر 2023 الذي تضمن عبارة "اذكر ما فعله بك عماليق"، معتبرا أن هذا الاستدعاء "يخلق شرعية دينية للعنف".
ويرى الناشط المقدسي، أن بعض مؤسسات الحاخامية العسكرية تلعب دورا إضافيا في تعزيز هذا التوجه، مشيرا إلى فتاوى تنسب لرجال دين مثل الحاخام إيليا مالي، دعا فيها إلى استخدام القوة المفرطة في غزة والضفة، ما يوفر غطاء دينيا للممارسات الميدانية.
من جانبه، يذهب د. عمرة جعارة، خبير الشؤون الإسرائيلية، إلى أن كل المشروع الاستيطاني محمول على قراءة توراتية متشددة، معتبرا أن التعليم الديني داخل أوساط المستوطنين يغذي رؤية تشرعن العنف بحق الفلسطينيين.
ويرى جعارة في حديثه لـ"فلسطين أون لاين"، أن التنشئة التوراتية تبدأ من المراحل المبكرة، من رياض الأطفال وصولا إلى الجامعات الدينية، وأن هذه البيئة التربوية ترسخ صورا ذهنية تعامل الفلسطيني باعتباره الخطر الأبدي في إطار رواية دينية تاريخية.
ويحيل خبير الشؤون الإسرائيلية إلى تصريحات سابقة لنتنياهو تحدث فيها عن "فعل يشوع بن نون مع العماليق"، معتبرا أن هذا النوع من الاستدعاء ليس زلة لسان، بل جزء من خطاب سياسي يوظف الرموز التوراتية في لحظة استقطاب داخلي حاد.
ويؤكد أن تكامل الأدوار بين الحاخامية والجيش والحكومة والكنيست يعزز بيئة آمنة للمستوطنين، حيث تتولى المؤسسات الدينية إنتاج الخطاب، والجيش حماية المنفذين، والحكومة تقديم الغطاء السياسي، والكنيست تشريع الإجراءات اللازمة.
في المقابل، ترى حكومة اليمين الصهيونية المتطرفة أن انتشار السلاح داخل المستوطنات وتوسيع صلاحيات الحرس المدني يأتي في إطار الدفاع الذاتي، وهي رواية تقول المنظمات الحقوقية إنها تستخدم لتبرير الاستخدام المفرط للقوة.
بدورها تشير منظمات مثل "بتسيلم" و"يش دين" إلى أن أكثر من 90% من ملفات اعتداءات المستوطنين تغلق دون توجيه اتهامات، معتبرة أن هذا الوضع "يشكل عمليا ضوءا أخضر لاستمرار الهجمات".
ويرى دلياني وجعارة أن هذا التصعيد مرتبط أيضا بالتنافس بين مكونات اليمين الديني والقومي داخل حكومة نتنياهو، حيث يسعى كل تيار لإظهار قدرته على "فرض الوقائع" على الأرض عبر التوسع الاستيطاني.
ويربطا بين تصاعد الاعتداءات ومحاولة حكومة اليمين المتطرفة فرض تغييرات ديمغرافية في مناطق (ب) و (ج)، عبر تهجير تدريجي للتجمعات الفلسطينية الصغيرة، وإحلال بؤر استيطانية جديدة مكانها.
وبينما تتواصل الاعتداءات وتتسع رقعتها، يطالب الفلسطينيون بآليات حماية دولية أكثر فاعلية، في وقت تبدو فيه مؤشرات التصعيد مرشحة للاستمرار ما دام الخطاب التوراتي يمنح العنف الميداني غطاءه، وما دامت البنية السياسية–الأمنية تحافظ على هذا النسق دون تغيير.

