فلسطين أون لاين

تخلي الأم عن المولود.. خيارٌ لا تتوقف عن دفع ثمنه

...
صورة تعبيرية
غزة - هدى الدلو

كثيرًا ما نسمع تعسر مشاكل الطلاق بين الأزواج بسبب تمسك الأم بحضانة أبنائها، فقلبها وغريزة الأمومة لا يسمحان لها بترك أطفالها يتربون في أحضان غيرها، ولأجلهم قد تتنازل عن بعض حقوقها، ولكن في بعض الحالات تنقلب الموازين فتتنازل الأم عن طفلها فور ولادته، وقد يكون ذلك بمحض إرادتها، أو تحت ضغط من أهلها، فأي ألم تتجرعه هذه الأم إزاء تلك الخطوة..

ألم وعزلة

رسمت لنفسها حياة وردية في بلاد الغربة، وخططت لتكوين أسرة سعيدة هناك، وذلك بعدما تعرفت على شاب يقيم في إحدى الدول الأوروبية، مدة الخطبة كانت أسبوعين فقط، فقد ترك خطيبها أعماله وجاء إلى قطاع غزة في زيارة قصيرة لأسرته، واستثمرت والدته مجيئه لإتمام مراسم الخطبة والزواج قبل سفره.

وقالت صابرين، وهو اسم مستعار: "أنهينا إجراءات الزواج بسرعة، وسافر قبلي لترتيب الأوراق الرسمية لأتمكن من اللحاق به، وعندما وصلت إلى هناك بدأت تتكشف لي الكثير من الأمور بعد الشهر الأول من الزواج، إذ لاحظت عودته المتأخرة من العمل، ورفضه لأي أجواء أسرية أو أحاديث عائلية، ليتبين لي أنه على علاقة بفتاة أجنبية".

وأضافت ذات الخمسة وعشرين عاما: "وبعد مواجهته، صارحني أن أهله من أجبروه على الارتباط والزواج"، متابعة: "ظننت أن حاله سيتغير بعدما يستقر في الأسرة وبعد قدوم طفلنا الأول، لكن تبين لي أن لا أمل في تحسّنه، ولما تعقدت الأمور أكثر حزمت حقائبي وعدت إلى أهلي في غزة، وكنت حينها في الشهر السادس من الحمل".

أيقنت صابرين أن الطلاق هو الحل، لكن والدها وضعها بين أمرين أحلاهما مر، فإذا أرادت الطلاق فإنها بمجرد أن تضع جنينها سيرسله إلى أهل طليقها بدلًا من أن تفني حياتها في تربيته وتتعلق به ثم تنتقل حضانته لأبيه، أو أن تعود لزوجها، فلجأت إلى الخيار الأول.

فور ولادتها، حمل والد صابرين الرضيع الذي لم يسمح لها أن تضمه، وأوصله إلى أهل والده، وعلى إثر ذلك عاشت صابرين ظروفًا نفسيةً صعبة لا يمكنها شرحها، عدا عن أنها ألغت فكرة الزواج مرة أخرى، وعاشت في عزلة وانطواء.

وقالت: "أتشوق لرؤية ابني واحتضانه، ولكن بكل تأكيد لن يسمح له أهل أبيه بأن يسأل عن والدته، فقد سمعت أنهم قرروا أن يخبروه عندما يكبر أن أمه ماتت".

زواجها صفقة

أما "غدير"، وهو اسم مستعار أيضا، فهي يتيمة الأب، وأقاربها من الدرجة الثانية كانوا أولياء أمرها في زواجها، تقدم لها شاب وكانوا على معرفة بوضعه المشبوه، ولكنهم اتخذوا من زواجها "صفقة"، إذ قالت: "بعد زواجي بفترة بسيطة أصبح الشك يتملكني بسبب كثرة خروجه من البيت، وأحيانا في أوقات متأخرة من الليل، بالإضافة إلى المبالغ المالية الكبيرة التي أجدها في البيت ولا أعرف مصدرها".

كان زوجها يخفي تجارته بالمخدرات ويتظاهر بأن له عملا خاصا في إحدى دول الخليج التي يسافر لها بين الحين والآخر، وكذلك عمل آخر مع أخيه.

وذات يوم أصيبت الشابة بحالة من الإعياء بسبب حملها، فزارتها والدتها لتساعدها في الأعمال المنزلية، فتفاجأت الأم بوجود مبالغ كبيرة في البيت، وكان هذا طرف الخيط لكشف أمر زوجها ومعرفة عمله الممنوع.

عادت غدير إلى بيت أهلها والألم يغزو قلبها، فاتخذت قرار الطلاق منه، وبعد أن وضعت مولودتها أرسلتها والدتها إلى أهل طليقها ليتولوا مهمة تربيتها .

وأوضحت أنها اتخذت هذا القرار بعد تفكير طويل رغم صعوبته، لأنها لا تقوى على تحمل مسئولية الطفلة بمفردها، كما أنها لن تتحمل فراقها عند انتهاء حضانتها.

انتقام وحسرة

ومن جهته، قال الأخصائي النفسي والتربوي إسماعيل أبو ركاب: "الجميع متفق على أن دافع الأمومة هو دافع فطري بامتياز، وأن النمو الجسمي والنفسي للطفل مرتبط ارتباطًا كاملًا بالأمن وخصوصًا قبل بلوغه سن سبع سنوات، لذلك يميل المختصون إلى افتراض أنه لا توجد أم في وضعها الفكري والنفسي والانفعالي الطبيعي يمكنها أن تتخلى عن طفلها".

وأضاف لـ"فلسطين": "إذا كان العكس، فسيكون تصرفها خارج نطاق إرادتها, فالدين والعرف والثقافة جزء لا يتجزأ من شخصية أي فرد في المجتمع، ولذلك كل تلك المتغيرات تتفق مع الفطرة في أنه من حق الأم التواجد مع طفلها، بالإضافة إلى حق الرضاعة والكفالة".

وأوضح أبو ركاب أن الأم التي تمتلك الحد الطبيعي من الفكر والعاطفة لا تتنازل عن طفلها بسهولة، ولكن حجم الشحنة الفكرية والانفعالية السلبية التي ممكن أن ينقلها لها الأهل والمحيطون بها تجاه الطرف الآخر قد تؤدي إلى تعطيل الجانب الشعوري والعاطفي بشكل مؤقت عندها، ولكنها سرعان ما تعود إلى طبيعتها ويتملكها الشعور بالندم والحسرة.

وبين: "وهنا لا نخفي دور الأهل السلبي، فكما تتحكم الفطرة في الكثير من تصرفاتنا، فإن النمط الاجتماعي يؤثر أيضًا, ولذا فإنه من المحتمل أن يكون دافع الأم في التخلي عن ابننها هو الانتقام من الطرف الآخر رغم أنها في تلك اللحظات تكون مغيبة عاطفيًا، ولكن صدمة الفقدان ستكون أقوى وأشد عليها من أفكار الانتقام السابقة".

ولفت إلى أن "دوافع الأهل هي بالدرجة الأولى هي الانتقام والتحدي ورد الاعتبار، وذلك بطريقتهم الخاصة دون مراعاة مشاعر الأم وظروفها الخاصة"، مؤكدا أن التخلي عن الطفل يبقى جرحا نازفا يرهق نفسية الأم، لكن بالنسبة لأهلها فإن أثره النفسي يزول بمرور الوقت.

وبحسب أبو ركاب: "لا أحد يهتم بالطفل كأمه، لذا فالأجدر بها أن تتمسك بطفلها، وخاصة في فترة الرضاعة والسنوات الأولى من عمره، وهذا من شأنه ألا يشعرها بتأنيب الضمير مستقبلاً، وكذلك يزيد ثقتها بنفسها على اعتبار أن المكون الأول والأساس في التربية والنمو لذلك الطفل هي من رسمت ملامحه".

وأشار إلى أن حجم المعاناة النفسية التي ستتعرض لها الأم بسبب تخليها عن مولودها سيكون رادعًا لها يمنعها من اتخاذ أي قرار في حياتها مهما صغر، وستكون عرضة للاكتئاب والقلق، وهما البوابة لشعور الإنسان بالعزلة، وسيغير هذا القرار مجرى حياتها بتبعاته السلبية على نفسيتها.

وقال أبو ركاب: "كثير من الناس يعتقدون أن الرضاعة هي فقط لإشباع الطفل ونموه الجسدي، ولم يدرك هؤلاء أنه بمجرد احتضان الأم لطفلها لإرضاعه تتكون نواة شخصية الطفل، ويشعر بالأمن، وهذا عامل مهم في حياة الإنسان، وفقدانه يهدد البناء النفسي للطفل، فالجفاء والبعد أساس الشخصيات المعادية لذاتها وللآخرين، والمضطربة انفعاليًا وفكريًا وسلوكيًا, وهذه الهزة النفسية الكبيرة التي يتعرض لها الطفل في بداية حياته سينتج عنها الكثير من الآثار السلبية بمستويات مختلفة وفي اتجاهات عدّة".