الفرحة بالحرية يُنغّصها الثمن الباهظ جدًا الذي دفعه أهل غزة من شهداء وجرحى وحصار وتدمير حتى تمت صفقة التبادل، وامتزج ذلك بالخجل الشديد من ترحابهم الكبير وفرحتهم واحتضانهم الدافئ لكل من أُبعِد إليهم من أسرى الضفة، "فقد غمرونا بكرمهم الذي فاق الحدود"، يقول الأسير المحرر سامي جرادات.
فكل ما فعله أهل غزة معجزة بحد ذاتها، فالأسرى دائمًا ما يأملون أن يتم أسر جندي إسرائيلي حتى يصبح لديهم أمل بالحرية، لكن أن يتم أسر المئات، فهو أمر لم يكن ليخطر على بال أي أسير مهما أبحر في الخيال. منذ لحظة السابع من أكتوبر، أدركنا أن حريتنا مسألة وقت.
ولكن لم نكن نتوقع أن يطول وقت التفاوض إلى هذه الدرجة، وأن يدفع أهل غزة هذا الثمن الباهظ من الدم والدمار. وفي الوقت ذاته، نحن في السجون عشنا أسوأ مرحلة في تاريخ اعتقالنا، فقد أخبرنا السجانون بأننا سنرى الوجه الحقيقي لليهود، وهذا ما كان، يضيف جرادات لصحيفة "فلسطين".
فخلال العشرين سنة التي قضيناها في السجون، لم نعش عشرة بالمئة من العذاب الذي رأيناه خلال الفترة الماضية من ذل وإهانة وعذاب وتجويع وترويع وعقوبات بسبب وبدون سبب، إضافةً إلى الضرب والتفتيش.
يقول: "صادروا كل ملابسنا ولم يتركوا لنا سوى غيار واحد، حتى المشط وفرشاة الأسنان وقصاصة الأظافر وغيرها من المستلزمات الشخصية صادروها. كما سحبوا كل المواد الغذائية من الكانتينا، ولم يتركوا لنا سوى فرشة واحدة (غير مغطاة) وحرام واحد".
ولكن التحول الكبير في أوضاع السجون بعد السابع من أكتوبر لا يعني أن الحياة قبلها كانت وردية، فالسجن غاية في الصعوبة. فقد عانيت كثيرًا من منع الزيارات لزوجتي وأبنائي لفترات طويلة بحجة عدم وجود صلة قرابة!
ويمضي بالقول: "لم يعطوا زوجتي تصريحًا دائمًا لزيارتي إلا في عام 2014م، أي بعد خمسة عشر عامًا من اعتقالي. قبلها، كانت تزورني مرة في العام، وأحيانًا يتم منعها هي وأبنائي الصغار خصوصًا، فكان التواصل مع الأهل صعبًا جدًا".
ومن أصعب المراحل التي عايشها جرادات في المعتقل، فترة الانقسام السياسي بين فتح وحماس، التي حاولت إدارة السجون تكريسها في السجون أيضًا. فقد حاولوا أن يخلقوا اصطفافًا تنظيميًا بين حماس والجهاد ضد فتح وإثارة المشاحنات بينهم، لكن تلك السياسة الخبيثة فشلت بسبب وعي الأسرى وتلاحمهم.
ورغم مرارة الاعتقال، فإن الحلم بالحرية هو الأمل الذي يعتاش عليه الأسير، وقد بلغ ذلك الأمل مبلغه بعد السابع من أكتوبر، إلى أن جاء اليوم الموعود. وجاء السجانون إلى القسم الموجود به جرادات بعد صلاة الفجر، وأبلغوه هو وعدد من الأسرى معه بأن يجهزوا أغراضهم لأنهم منقولون، ليدركوا بأنهم مفرج عنهم.
ويضيف: "نقلوني أنا وعددًا آخر إلى سجن النقب، فأدركنا أننا مُبْعَدون، فالطبيعي أنه لو كان سيفرج عنا للضفة، أن يتم نقلنا إلى سجن عوفر، وتأكد ذلك عندما أخبرنا ضابط الشاباك بأننا مبعدون إلى مصر، وهناك ستتولى تنظيماتنا نقلنا إلى بلاد أخرى".
ويستدرك بالقول: "لكن أنا وعددًا من زملائي الأسرى لم يسلمونا لمصر، وطلبوا منا الهرولة وسط الدبابات والقناصة وتحت الضرب والإهانة في طريق لا نعرفه. وما إن وصلنا نهاية الطريق، أدركنا أننا في رفح، وما زلنا هنا حتى اللحظة".
وفي غزة، يشعر جرادات بالسعادة لانتهاء رحلة السجن المريرة من ذل وعذاب وإهانات يومية، وبالخجل الشديد من تضحيات أهل غزة العظيمة واستقبالهم له بالفرح والزغاريد والترحاب والكرم، متعالين على جراحهم الغائرة.
يشار إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت الأسير جرادات، وهو أحد كوادر سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، بتاريخ 22-10-2003، وأصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكمًا بالسجن المؤبد 23 مرة، بالإضافة إلى السجن 50 عامًا لدوره في التخطيط لعملية الاستشهادية هنادي جرادات.

