فلسطين أون لاين

"أصابتْها في خيمةِ النُّزوح القسْري"

في "عمر الورود".. "سارة" تصارعُ رصاصةً "إسرائيلية" استقرَّت بعينها

...
الوسطى- نبيل سنونو

لحظات من الفرح انتزعتها سارة العوضي (17 عامًا) مع صديقتها في خيمة النزوح بتبادل أطراف الحديث الصباحي، وتحضير ما توفر من طعام شحيح، لكنها انتهت حين أحست بغتة كأنما ضربها أحدهم بمطرقة من حديد على رأسها.

اخترق سؤال سارة "مين رمى علي إشي؟" صرخات صديقتها وأخواتها الثلاث وأمها، الذين أدركوا سريعًا أن ثمة رصاصة أطلقتها طائرة "كواد كابتر" إسرائيلية أصابت رأسها.

كانت تلك محطة فاصلة في حياة سارة التي يفترض أنها تتحضر الآن لامتحانات الثانوية العامة، لولا إصابتها في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وتسكن سارة في حي الرمال بمدينة غزة، وأجبرها العدوان "الإسرائيلي" على النزوح مع أسرتها المكونة من سبعة أفراد إلى خيمة في بلدة الزوايدة وسط القطاع.

على سرير المستشفى، تبدو العين اليمنى لسارة منتفخة وقد غيرت معالم وجهها المعهودة لأهلها، ففي "عمر الورود" فرضت الرصاصة الإسرائيلية واقعًا جديدًا عليها، وهي التي لم تشفَ بعد من تداعيات الحرب.

هي صدمة تتضح معالمها في نبرة سارة المثقلة بالهموم بعد أن كانت مفعمة بالحياة، عندما بدأت باستعادة شريط الأحداث، قائلة لصحيفة "فلسطين": إنها كانت تستعد لأداء امتحانات الصف الحادي عشر عندما بدأت حرب الإبادة التي قلبت حياتها "180 درجة".

مثّل ذلك بداية مسلسل من المعاناة غير المسبوقة لأسرتها كحال الغزيين الذين يتعرضون لشتى أنواع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي مقدمتها القتل والتجويع والتعطيش والتشريد.

"بدأ النزوح والخوف من فقد أي أحد من الأهل والأحباب"، تعبر سارة عما اجتاح مشاعرها مع بداية الحرب.

ولا تزال سارة تذكر كيف أوجد الاحتلال حالة من الضغط النفسي والتهديد الجسدي، خصوصًا في الأسبوع الأول من أكتوبر 2023 عبر مطالبتهم بالنزوح إلى جنوب قطاع غزة وسط غارات جوية مكثفة تعرف بالأحزمة النارية.

لكن ما زعم الاحتلال أنها "منطقة آمنة" في جنوب القطاع، كانت مسرحًا لسلسلة لا متناهية من جرائم الإبادة.

عن الحياة في الخيام، تقول سارة: "المعاناة التي نعيشها هناك لا توصف... الرمل والحشرات وشح المياه وإشعال الحطب بدلًا من الغاز، تغيرت علينا الحياة التي اعتدناها".

وانخرطت سارة قبل إصابتها بتعبئة المياه وتحمل مشاق الحياة في الخيمة مع أخواتها، في ظل انشغال أبيهم بالسعي إلى توفير لقمة العيش، وصغر سن أخيهم الوحيد من الذكور.

وزاد الطين بلة حلول فصل الشتاء مصطحبًا معه الصقيع والمطر، دون أن تتوفر لهم الملابس أو الأمتعة اللازمة للتدفئة.

تشرح سارة جانبًا من مآسي النزوح القسري، بقولها: "الخيمة جوها بارد جدًّا، وعندما نزحنا لم نأخذ معنا شيئًا، كل منا بما عليه من ملابس فقط".

وكان ذلك في غمرة الخوف الذي اعتراها في الخيمة سواء من رصاص الاحتلال أو من اللصوص.

ووسط هذه الظروف المأساوية، لم يتسنَّ لسارة وإخوتها الحصول على حقهن في الغذاء، مع شحه وارتفاع أثمان ما يتوفر منه، بسبب تحكم الاحتلال الإسرائيلي بالواردات إلى القطاع.

لكن في 22 أكتوبر 2024 وقع ما كانت سارة تخشاه على الدوام.

تتحسس الفتاة مواطن الألم في رأسها، وتسرد تفاصيل الجريمة الإسرائيلية: "كنت قد استيقظت للتو من النوم، وأخواتي يحضرن ما استطعن تدبيره للإفطار مع صديقتي، وأنا أجلس على أكياس الرمل لعدم توفر الكراسي".

تتنهد بعمق، وتضيف: "كانت أمي تجلس أمامي، وفجأة شعرت بوجع حاد في رأسي، وما إن هممت بسؤالهم عما ألقي علي، كانوا قد بدؤوا بالصراخ".

لم تسمع سارة صوت الرصاصة التي شاهدت أسرتها اختراقها قماش الخيمة، وإصابتها رأسها، وتسببها بنزيف فيه.

سارعت أمها إلى وضع يدها على مكان النزيف في محاولة لإيقافه ريثما تنقل إلى المستشفى.

وسرق هذا الحدث فرحة سارة باستجابتها قبل الإصابة لعلاج الصداع الذي كان ينتابها، وأنهكت في البحث عن دواء مناسب له.

وفي البداية لم تكن سارة تعرف أين استقرت الرصاصة التي أصابت رأسها، وتسببت بتورم وجهها، وتحوله إلى اللون الأزرق، لكنها باتت تعرف الآن أنها في منطقة العين اليمنى، حسبما أفادها الأطباء.

تشير بيدها إلى الجانب الأيمن من رأسها، قائلة: "الرصاصة دخلت من هنا، وأصابت الجمجمة وسببت نزيفًا في الشبكية، واختراقًا للعصب البصري، واستقرت بمنطقة العين اليمنى وموجودة فيها حتى الآن، حيث أشعر بثقلها وأتوجع".

وتتحسر سارة على ما أصاب عينها اليمنى التي باتت الرؤية عبرها شبه منعدمة، وتخشى من فقد البصر كليًّا.

بصوت مرتعش تقول: "أنا طالبة، لي مستقبل أنشده، وخائفة من فقد الرؤية".

كما أنها فقدت القدرة على النوم على الجهة اليمنى من وجهها، مع ملازمة الصداع لها.

بلا ذنب وجدت سارة نفسها في هذه الحالة المرضية، وهي تنتظر فرصتها في السفر بموجب تحويلة علاجية، لكن الأمل في ذلك يتضاءل مع الاحتلال الإسرائيلي للجانب الفلسطيني من معبر رفح منذ مايو/ أيار.

وتحتاج حالة سارة، وهي واحدة من 108.338 مصابًا غزيًّا منذ بدء الحرب، إلى أجهزة طبية دقيقة لا تتوفر في مستشفيات قطاع غزة، التي تعرض معظمها لتدمير إسرائيلي ممنهج.

وتلقي إصابة سارة بظلالها على الوضع النفسي لوالدتها التي ترافقها في المستشفى، والتي عانت قبل فترة وجيزة من إصابة طفلها محمد (10 أعوام) بطريقة مماثلة، وسببت له التبول اللاإرادي، والوضع النفسي المتأزم، وتشتت الذاكرة.

وفي انتظار تمكنها من السفر لبدء رحلة علاج تبعث فيها أملًا باستعادة بصرها والانطلاق نحو مستقبلها، تئن سارة بصمت حاملة معها أوجاعًا تخنق صدرها، وتشل حياتها.

المصدر / فلسطين اون لاين