أرسل لي صديق مصري يحمل الدكتوراة في التاريخ الإسلامي مقالة له عن رحالة مغربي هو محمد العبدري الحاحي من أعلام القرن السابع الهجري يطلب مني إلقاء نظرة عليه قبل إرساله لإحدى المجلات بهدف النشر، وكان عنوان هذه المقالة " طبائع المصريين وأخلاقهم في رحلة أبي عبد الله العبدري"، فكان هذا باعثًا لي للاطلاع على رحلة العبدري لأنظر إذا كان قد زار فلسطين وتناول طبائع أهلها، أو أورد أي معلومات عنها في القرن السابع، وبالفعل وجدت الرجل قد زار عددا من مدن فلسطين وعلى رأسها مدينة القدس.
هذا الرحالة يدعى محمد بن محمد بن محمد العبدري المعروف بالحيحي و(الحاحي) نسبة إلى بلاد (حاحا) المغربية الواقعة على بعد 60 كيلومتر من مدينة الصويرة في الشاطئ الأطلنطي, وهو رحالة ومؤرخ وقاض وفقيه مغربي في القرن السابع الهجري، وكان شاعرا فحلا وأديبا نقادا توفي (نحو 1300م/ نحو 700هـ).
لم يخلف العبدري سوى رحلته العبدرية المسماة الرحلة المغربية، وكان هدفه من رحلته هذه أداء فريضة الحج، وقد بدأها في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 688هـ - 1289م، واتخذ فيها طريق أفريقيا الشمالي، فسافر برًا من وراء الأطلسي قاطعًا المفازة الواقعة بين جنوبي المغرب ومدينة تلمسان، فما كاد يصل إلى مدينة الجزائر حتى غادرها إلى تونس، ثم قصد بلاد طرابلس ومصر، فمر بالإسكندرية وتابع إلى القاهرة، ثم اتجه إلى العقبة ودخل مع الركب بلاد الحجاز، فقصد مكة المكرمة ثم المدينة المنورة.
أما عودته فكانت عن طريق فلسطين، فأقام في القدس خمسة أيام حضر فيها مجلسين علميين للقاضي بدر الدين بن جماعة، ثم رحل إلى الإسكندرية، ومنها رجع إلى بلاده في المغرب.
وقد حظيت هـذه الرحلة باهتمام عـدد من المستشرقين الفرنسيين والإسبان، فقد قال عنها المستشرق الفرنسي (شيربونو): «إنني ما رأيت كتابًا عربيًا مفيدًا ممتعًا على درجـة رحلـة العبدري، ليـس لصحة تحقيقاته الجغرافية فقط، ولكن أيضًا لتفاصيلـه عن الآثار القديمـة، ولدراستـه للعادات، ولتقديمه لنا جُـل علماء القرن السابع الهجري المسلمين».
في العام 690هـ الموافق 1291م زار الرحالة المغربي أبو عبد الله محمد العبدري مدينة القدس ومكث فيها خمسة أيام ,وقد سجل رحلته في كتاب يحمل عنوان الرحلة المغربية أو رحلة البدري فخص القدس بأربع صفحات من كتابه, ويمكن تقسيم حديثة عن القدس إلى أقسام ثلاثة ,ذكر فيها معالم المدينة المقدسة, ثم وصف المسجد الأقصى والصخرة المشرفة, وتحدث عن الحالة العلمية في القدس, حيث التقى هناك خطيب المسجد الأقصى القاضي بدر الدين محمد بن جماعة.
ومن خلال وصفه للقدس يزودنا العبدري الحيحي بمعلومات غنية عن الخراب الذي أحدثه الملك الأيوبي شرف الدين عيسى المعظم في أسوار هذه المدينة, ثم نقل عن الجغرافي العربي أبي عبيد الأندلسي وصفه للمسجد الأقصى كما جاء في كتابه, غير أنه تحدث عن قبة الصخرة بشكل كان قد أثار دهشته وإعجابه بهذا البناء الجميل.
يقول العبدري: "ثم وصلنا إلى بيت المقدس، زاده الله تعظيما، وأَلحفَه مبرة دائمة وتكريما؛ مسجد الأنبياء، وقبلتنا قديما، ومطلع الأولياء يطلعهم عظيما فعظيما، أحد المساجد التي إليها تعمل الـمَطي، وتضاعف الحسنات لكل بر وتقي؛ مصعد نبينا عليه السلام، إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام، ومعراجه حين عسعس الظلام، إلى مناجاة الملك العلام؛ والقدس المقدس المنقي من الآثام، نُجْعة من راد، وريّ من حام، خفق برقه فوفق من شام، وتدفق وَدْقُه فأفرق ذو الهيام؛ لو نطق محتجا لفضيلة الشام، لأفحم به العراق أي إفحام. والبلد مدينة كبيرة، منيعة، محكمة، كلها من صخر منحوت، على نشز غليظ مقطوع بجهات الأودية، وسورها مهدوم، هدمه الملك الظاهر خوفا من استيلاء الروم عليها، وامتناعهم بها، والخراب فيها فاش، وليس بها نهر ولا بستان، وحواليها تلالٌ مشرفة عليها".