"لقيناهم مدفونين في الرمل".. هي ليست مجرد كلمات نطقتها سيدة ولا أشياء مادية قد تكون عثرت عليها، ولكنها صرخة أم توزع نظراتها الباكية على أطفال ثلاثة من "لحمها ودمها"، كانوا تحت الأنقاض.
تفترش الأم "آمال اللوح" الأرض وهي تحتضن طفلها محمود الذي لم يتجاوز بعد ثلاثة أعوام من عمره، ولا يعرف من هذه الدنيا شيئا سوى الألم الذي يغزو جسده المحروق بصاروخ "إسرائيلي".
ولا تعرف هي أيضًا كيف باتت مع أطفالها وزوجها في المستشفى بين ليلة وضحاها، وبأي ذنب تجرّعوا مرارة واحدة من أعتى جرائم حرب الإبادة الجماعية التي لم تخفت منذ عام.
وإلى جوارها طفلتها سارة البالغة عامًا وسبعة أشهر المحروقة كذلك جسدًا، المقهورة روحًا، المعذبة بلا جرم، والمستهدفة بلا رحمة، مع شقيقتها حلا ذات الأشهر الأربعة.
وقبل أن تبدأ حكاية أم محمود وأسرتها مع المعاناة من هذه الجريمة، كانوا يقطنون في المخيم الجديد بالنصيرات وسط قطاع غزة، في بيت مسقوف "بالإسبست"، بنوه بالكاد في ظل صعوبة وضعهم المالي.
وضعت أم محمود وزوجها حجرًا حجرًا في منزلهما الذي يتكون من غرفة ومطبخ ودورة مياه وتطلعا إلى أن يأوي أسرتهما، ولكنه كان في فبراير/شباط مسرحا لجريمة إسرائيلية في إطار حرب الإبادة الجماعية.
"كنت في البيت أنا وزوجي وأطفالي عند استهداف منزل جيراننا المكون من ثلاثة طوابق فسقطت علينا من شدة الضربة أعمدة بيتنا وسقف الإسبست"، بالكاد تروي "أم محمود" لـ"فلسطين أون لاين" فصول الأحداث بنبرة متحشرجة.
لم يكن أمام الأسرة بعد تدمير منزلها سوى النزوح إلى إحدى مدارس الإيواء في النصيرات التي تعج بالنازحين، ومن ضمنهم أهلها.
تتوقف أم محمود قليلا وتنطق عيناها حزنًا، قبل أن تتابع: النزوح كان صعبا، لا يوجد مكان مثل بيتك، "بتطلع (تجبر على النزوح) بروحك وروح أولادك".
وبأسى تبكي حالها: خسرنا كل شيء، ولم نعد نملك لا ملابس ولا مأكل ولا مشرب والوضع سيء مع عدم توفر المال، والحالة النفسية متعبة، لكن حتى مركز الإيواء لم يكن آمنا من صواريخ الاحتلال.
في أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وبينما كانت أم محمود في العيادة تلقت نبأ قصف المدرسة التي تؤوي أطفالها وزوجها.
انفطر قلبها وهرولت نحو المدرسة علها تجدهم بخير.
تقول: تفاجأوا بالصاروخ الذي ضرب الطابق الثالث واخترق الطابق الأول حيث كان أطفالي وزوجي يتواجدون فيه.
انتشل المسعفون والمتطوعون أطفالها وزوجها ونقلوهم إلى مستشفى العودة في مخيم النصيرات، قبل أن يحولوا إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح.
تسارعت دقات قلب أم محمود، لمعرفة مصير فلذات كبدها وشريك عمرها.
تواجه "حلا" مصاعب صحية أبرزها كسور في الرأس ووجود شظايا تحت الجلد وانتفاخ في بطنها وتسمم، حسبما تقول والدتها.
أما محمود وسارة فيعانيان من حروق في أنحاء جسديهما كافة، ويحتاجان لمزيد من الفحوصات للمساعدة في تحديد إذا ما كانت هناك مشكلات صحية أخرى، بينما يئن زوجها من حالته الصحية التي تصفها بأنها "مدمرة".
وتتطلع أم محمود إلى تحويل أفراد الأسرة للعلاج في الخارج، في ظل الضغط الهائل على المنظومة الصحية بالقطاع، مع استهداف الاحتلال للمستشفيات والطواقم الطبية.
لكن الاحتلال "الإسرائيلي" لمعبر رفح البري من الجانب الفلسطيني ولطول حدود قطاع غزة مع مصر منذ مايو/أيار يحول ذلك إلى حلم مستحيل التحقق حاليا.
ومحمود وحلا وسارة ووالدهم هم ضمن 98,336 مواطنا أصابهم الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في حين بلغ عدد الشهداء 42,175، جلهم من الأطفال والنساء.
وحتى المستشفى الذي تذرف فيه أم محمود دموعها حزنا على أسرتها وتأمل تحسن أوضاعهم الصحية فيه ليس آمنا من جرائم الاحتلال الذي قصف مرارا في محيطه وداخله.
ولا تملك الغزية المكلومة سوى الدعاء والصبر ما استطاعت، أمام طفولة أبنائها التي كانت ضحية جديدة في "مذبح الاحتلال" صاحب السجل غير المتناهي في ارتكاب المجازر.